ثلاث ترجمات لمقالة The end of capitalism has begun

 

عبدالله كمال:
نهاية الرأسمالية بدأت

أحمد غربية:
بداية نهاية الرأسمالية

فريق موقع راقب:
هل بدأت نهاية الرأسمالية العالمية؟

Paul Mason:
The end of capitalism has begun

1

الأعلام الحمراء، وأغاني مسيرات حركة سيريزا خلال الأزمة اليونانية بالإضافة إلى التوقعات بتأميم البنوك، كانت كلها عوامل لإعادة إحياء حلم القرن العشرين لفترة وجيزة. الحلم هو تدمير السوق من أعلى بالقوة. في أغلب فترات القرن العشرين كانت تلك هي الطريقة التي يفهم بها اليسار أولى خطوات وجود اقتصاد ما بعد الرأسمالية. القوة تأتي من الطبقة العاملة سواء عبر صناديق الانتخاب أو في الثكنات الثورية. وتعمل الدولة كرافعة لتلك الجهود. وتتاح الفرصة لتحقيق ذلك من خلال عدد من الانهيارات الاقتصادية المتلاحقة.

الرّايات الحُمر وأناشيد مسيرات سيريزا إبّان أزمة اليونان، و آمال تأميم البنوك، أحيَت لِوَهلةٍ حُلْمًا مِنْ أحلام القرن العشرين: تقويض السُّوق بالقوَّة. لأغلب القرن العشرين كانت تلك رؤية اليسار للمرحلة الأولى من اقتصاد مابعدالرَّأسماليَّة. القوَّة كان يُفترض أنْ تُظهِرها الطَّبقة العاملة إمَّا في صناديق الاقتراع أو على المتاريس. الرَّافعة كانت ستكون الدَّولة، و الفرصة ستسنح بين فصول متواترة من الانهيار الاقتصادي.

مع سيادة الأعلام الحمراء وترديد أغنيات المسيرات الخاصة بحزب "سيريزا" أثناء أزمة الديون اليونانية، بالإضافة إلى توقع تأميم البنوك، أعيد إحياء أحد أحلام القرن العشرين لفترة وجيزة، ألا وهو التدمير الاضطراري للسوق من أعلى. خلال الكثير من القرن العشرين، كان تلك كيفية تخيل اليسار للمرحلة الأولى من اقتصاد ما بعد الرأسمالية. حيث ستطبق القوة على يد الطبقة العاملة، إما عبر صناديق الانتخابات أو من وراء المتاريس. ستكون الدولة هي الذراع الرافعة. وستتاح الفرصة لذلك عبر حلقات متكررة من الانهيارات الاقتصادية.

The red flags and marching songs of Syriza during the Greek crisis, plus the expectation that the banks would be nationalised, revived briefly a 20th-century dream: the forced destruction of the market from above. For much of the 20th century this was how the left conceived the first stage of an economy beyond capitalism. The force would be applied by the working class, either at the ballot box or on the barricades. The lever would be the state. The opportunity would come through frequent episodes of economic collapse.

2

لكن على مدار خمسة وعشرين عاما كان مشروع اليسار هو الذي تعرض للانهيار. نظام السوق قضى على الخطة، وحلت الفردية مكان التضامن والجمعية. تبدو قوة العمل التي توسعت بشكل هائل على مستوى العالم كبروليتاريا ولكنها لم تعد تفكر أو تتصرف كما كانت تفعل من قبل.

لكنْ عوضًا عن ذلك، فعلى مرِّ السَّنوات 25 السَّالفة لمْ يتقوَّض غيرُ مشروع اليسار. السُّوقُ خرَّبت الخُطَّة؛ الفرديَّة أزاحت الجمعيَّة و التَّضامن؛ والقوى العاملة العالميَّة المتزايدة عدديًّا باضطراد تظهر بمظهر ”البروليتاريا“ لكنِّها لَمْ تعد تَعقِل و لا تسلُك كما كانت.

إلا أنه بدلا من ذلك، تعرض المشروع اليساري للإنهيار خلال ربع القرن الماضي. فقد دمر السوق الخطة، وحلت الفردية محل الجماعية والاتحاد، بينما تبدو القوة العاملة العالمية الكبيرة كـ"بروليتارية"، إلا أنها لم تعد تفكر أو تتصرف كما فعلت في السابق.

Instead over the past 25 years it has been the left’s project that has collapsed. The market destroyed the plan; individualism replaced collectivism and solidarity; the hugely expanded workforce of the world looks like a “proletariat”, but no longer thinks or behaves as it once did.

3

لو كنت ممن شهدوا تلك التغيرات، وكنت تكره الرأسمالية، فالأمر بالتأكيد كان صادما. ولكن أثناء حدوث تلك التطورات خلقت التكنولوجيا طريقا جديدا، ويجب على بقايا اليسار القديم وكل القوى المتأثرة به أن يتبنوا ذلك الطريق أو يموتون.

إذا كُنتَ قد مررتَ بذلك كلِّه و قاسيتَ الرأسماليَّة فلا بد أنَّك مكروب. لكنَّ التِّقنية أوجدت مسارًا جديدًا؛ مسارًا يجب على فلول اليسار القديم -و كلِّ القوى الأخرى المتأثِّرة به- أنْ تعتنقه أو تَبيد.

إن كنت قد عاصرت كل ذلك، ولم تروقك الرأسمالية، فلابد أن الأمر كان مؤلما. ولكن في خضم العملية، خلقت التكنولوجيا مخرجا جديدا، أجبر بقايا اليسار القديم – وجميع القوى المتأثرة به – على جمع شملها، أو لقاء حتفها.

If you lived through all this, and disliked capitalism, it was traumatic. But in the process technology has created a new route out, which the remnants of the old left – and all other forces influenced by it – have either to embrace or die.

4

الرأسمالية، كما تَبَيّن، لن تنهيها المسيرات القسرية، ولكنها ستنتهي من خلال إيجاد شيء أكثر ديناميكية. هذا الشيء سيوجد أولا بشكل غير مرئي تقريبا داخل الأنظمة القديمة، حتى يتمكن من اختراقها وإعادة تشكيل الاقتصاد حول قيم وسلوكيات جديدة. وهو ما سأطلق عليه ما بعد الرأسمالية.

اتَّضح أنَّ الرأسماليَّة لَنْ تقضي عليها أساليب الزَّحف القاهر، بَلْ سيقضي عليها ظهور شيءٍ أكثر ديناميكيَّة، يتواجد ابتداءً غير مرئيٍّ في ثنايا النِّظام القديم، لكنَّه سيخرقه مُعيدًا تشكيل الاقتصاد حول قيم و سلوكيَّات جديدة. أُسمِّي ذلك مابعدالرَّأسماليَّة.

فالرأسمالية، حسبما اتضح، لن تلغى بواسطة أساليب المشي الحثيث. بل ستلغى عبر خلق نظام جديد أكثر نشاطا يتواجد، في البداية، بشكل شبه خفي في رحم النظام القديم، ليتمخض الرحم عن ذلك النظام الجديد الذي سيعيد تشكيل الاقتصاد حول قيم وسلوكيات جديدة. أود أن أطلق على ذلك نظام ما بعد الرأسمالية.

Capitalism, it turns out, will not be abolished by forced-march techniques. It will be abolished by creating something more dynamic that exists, at first, almost unseen within the old system, but which will break through, reshaping the economy around new values and behaviours. I call this postcapitalism.

5

كما حدث في نهاية النظام الإقطاعي منذ 500 عام، سيتم تسريع عملية استبدال الرأسمالية بما بعد الرأسمالية من خلال صدمات خارجية وستتشكل تلك المرحلة بظهور نوع جديد من الإنسان. وهو الأمر الذي بدأ بالفعل.

كما كان الحال بنهاية الإقطاع من خمسمئة سنة مضت، فإنَّ حلول مابعدالرَّأسماليَّة محلَّ الرَّأسماليَّة ستُسارِعُ من وتيرته صدمات خارجيَّة وسيُشكِّله ظهور نوع إنساني جديد. و هذا كلُّه قد بدأ.

كحال نهاية الإقطاعية منذ 500 عام، سيتسارع حلول نظام ما بعد الرأسمالية محل النظام الرأسمالي بفعل الصدمات الخارجية، وسيتشكل بفعل ظهور نوع جديد من البشر. وقد بدأ ذلك بالفعل.

As with the end of feudalism 500 years ago, capitalism’s replacement by postcapitalism will be accelerated by external shocks and shaped by the emergence of a new kind of human being. And it has started.

6

أصبح وجود ما بعد الرأسمالية ممكنا نتيجة لحدوث ثلاثة تغيرات رئيسية خلقتها تقنيات المعلومات خلال الـ25 عاما الماضية. أول تلك التغيرات هي تقليل الحاجة إلى العمل، وجعل الفواصل بين العمل وأوقات الفراغ غير واضحة، وإضعاف العلاقة بين العمل والأجور. الموجة القادمة من الميكنة، والمتعطلة حاليا بسبب عدم قدرة البنى الاجتماعية على تحمل عواقبها، ستقلل بشكل كبير من كمية العمل المطلوبة. العمل هنا ليس من أجل البقاء فقط ولكن لتوفير حياة كريمة للجميع.

مابعدالرَّأسماليَّة مُمكنة بسبب ثلاثة تغيُّرات كبرى أحدثتها تقنية المعلوماتيَّة خلال السَّنوات 25 الماضية. أوَّلها تقليل الحاجة إلى العمل، وإبهام الحدِّ بين العمل ووقت الفراغ وإرخاء الصِّلة بين العمل والأجر. موجة المَيْكَنَة القادمة، المتعطِّلة حاليًا لقصور بِنْيَتنَا الاجتماعية عن تَحمُّل عواقبها، ستقلِّل كثيرًا مِنْ حجم العمل اللازم، لا للكفاف وحسب، بل لتوفير حياة كريمة للجميع.

مرحلة ما بعد الرأسمالية محتملة بسبب ثلاث تغييرات رئيسية أحدثتها تكنولوجيا المعلومات خلال ربع القرن الماضي. أولا، خفضت تكنولوجيا المعلومات الحاجة إلى العمل، وطمست الحدود بين العمل ووقت الفراغ وخففت الارتباط بين العمل والأجور. وستقلص الموجة التالية من التشغيل الآلي، المعلقة حاليا لأن مجتمعنا لا يستطيع تحمل عواقبها، بشدة القدر الضروري من العمل – ليس فقط لتوفير مستلزمات المعيشة بل ولتوفير معيشة كريمة للجميع.

Postcapitalism is possible because of three major changes information technology has brought about in the past 25 years. First, it has reduced the need for work, blurred the edges between work and free time and loosened the relationship between work and wages. The coming wave of automation, currently stalled because our social infrastructure cannot bear the consequences, will hugely diminish the amount of work needed – not just to subsist but to provide a decent life for all.

7

ثانيا: ساعدت المعلومات على تآكل قدرة نظام السوق على تحديد الأسعار بشكل صحيح. وذلك لأن السوق مبني على مبدأ الندرة، في حين أن المعلومات متوفرة بشكل كبير. لذلك كانت طريقة النظام في الدفاع عن نفسه هي تكوين احتكاريات، تمثلها شركات التقنية العملاقة، بشكل لم يشهده العالم خلال المائتي عام الماضيين. لكن تلك الاحتكاريات لا تستطيع الاستمرار. هذه الشركات تبني نماذج إدارة أعمال وتحدد قيمة أسهمها اعتمادا على امتلاك وخصخصة كل المعلومات التي ينتجها المجتمع. ومن ثم فإن الصرح الذي تبنيه تلك الشركات هش ويتناقض مع أكثر الاحتياجات الأساسية للإنسان: استخدام الأفكار بحرية.

ثانيها، أنَّ المعلومات تنخر قدرة السُّوق على ضبط الأسعار. وذلك لأنَّ الأسواق تقوم على النُّدرة في حين أنَّ المعلومات وفيرة. آليةُ دفاعِ النِّظام تأليفُ الاحتكارات -متمثِّلة في شركات التكنولوجيا الكبرى- على نطاق غير مشهود خلال السنوات المئتين الماضية، لكنَّها مع ذلك ليست قادرة على البقاء. فتلك الشَّركات تطوِّر نماذج الأعمال وتثمينات الأسهم بِناءً على مَسْكِ وخصخصة كُلِّ المعلومات المنتَجة جماهيريًا، مُنشِئةً واجهات مؤسَّساتيَّة هشَّة تتعارض مع احتياج إنساني أساسي، ألا وهو استعمال المعلومات بحُرِّيَّة.

ثانيا، تؤدي المعلومات إلى تآكل قدرة السوق على ضبط الأسعار على نحو صحيح. فالأسواق قائمة على الاحتياج بينما المعلومات متوافرة بكثرة. فتمثلت آلية النظام الدفاعية في تكوين كيانات احتكارية – وهي شركات التكنولوجيا العملاقة – بشكل غير مسبوق خلال القرنين الماضيين، إلا أنها غير قادرة على الاستمرار. عبر بناء نماذج أعمال وتقييمات الأسهم على أساس مصادرة وخصخصة جميع المعلومات المنتجة اجتماعيا، تبني تلك الشركات صرحا مؤسسيا هشا يخالف الحاجة الأكثر أساسية للإنسانية، المنطوية على استخدام الأفكار على نحو حر.

Second, information is corroding the market’s ability to form prices correctly. That is because markets are based on scarcity while information is abundant. The system’s defence mechanism is to form monopolies – the giant tech companies – on a scale not seen in the past 200 years, yet they cannot last. By building business models and share valuations based on the capture and privatisation of all socially produced information, such firms are constructing a fragile corporate edifice at odds with the most basic need of humanity, which is to use ideas freely.

8

ثالثا، نحن نشهد ارتفاعا عفويا في الإنتاج الجمعي، سواء على مستوى البضائع أو الخدمات أو المؤسسات التي لم تعد تستجيب لإملاءات السوق وما تتطلبه الهيكلية الإدارية. أكبر منتج معلوماتي في العالم هو ويكيبديا، الذي صنعه متطوعون بلا أجر. ساهمت ويكيبيديا في القضاء على صناعة الموسوعات وحرمت صناعة الإعلانات من أرباح سنوية تقدر بثلاثة مليارات دولار.

ثالثها، أنَّنا نشهد الصُّعود العفوي للإنتاج التَّشاركي؛ إذْ تَظهَرُ سلع و خدمات و مُنظَّمات غير مستجيبة لإملاءات السُّوق و لا للتراتبيَّة الإداريَّة. المُنتَج المعرفي الأكبر في العالم، أيْ ويكيبيديا -الموسوعة الحُرَّة- صنعه متطوِّعون بلا مقابل، مفارقين صناعة الموسوعات التَّقليديَّة وحارمين صناعة الإعلان مِنْ عائد قدره ثلاثة بلايين دولار سنويًا.

ثالثا، نحن نشهد صعودا عفويا للإنتاج الجماعي، حيث تظهر البضائع والخدمات والمؤسسات أنها لم تعد تستجيب لإملائات السوق والهيكل الإداري. فأكبر منتج معلوماتي في العالم – موقع "ويكيبيديا" – أنشأه متطوعون مجانا، ويقضي على تجارة الموسوعات ويحرم صناعة الإعلانات من أرباح سنوية تقدر بـ3 مليارات دولار.

Third, we’re seeing the spontaneous rise of collaborative production: goods, services and organisations are appearing that no longer respond to the dictates of the market and the managerial hierarchy. The biggest information product in the world – Wikipedia – is made by volunteers for free, abolishing the encyclopedia business and depriving the advertising industry of an estimated $3bn a year in revenue.

9

داخل أروقة وردهات نظام السوق، وبشكل غير ملحوظ تقريبا، بدأت مساحات كاملة من الحياة الاقتصادية تتبنى إيقاعا مختلفا. زادت مبادرات مثل العملات الموازية وبنوك الوقت، والتعاونيات والمساحات ذاتية الإدارة، بشكل يلحظه الاقتصاديون بالكاد. تلك التطورات أتت غالبا كنتيجة لانهيار الأبنية القديمة في أعقاب أزمة عام 2008.

في الأطراف النَّائية مِنْ نظام السُّوق وأركانه غير المطروقة طفقت ضروب عديدة من الحياة الاقتصاديَّة تتحرّك وفق إيقاع مختلف. العملات الموازية وبنوك الوقت والتَّعاونيَّات والمساحات المُدارة ذاتيًا انتشرت بعيدًا عن نظر حرفة الاقتصاد وغالبًا كنتيجة مباشرة لتصدُّع الهياكل العتيقة لما بعد أزمة 2008.

مما لم يلحظه أحد تقريبا، في كوات وتجاويف نظام الأسواق، أن مساحات كاملة من الحياة الاقتصادية تبدأ في التحرك نحو إيقاع مختلف. حيث انتشرت العملات الموازية، وبنوك الوقت، والمساحات التعاونية وذاتية الإدارة، وتكون عادة نتيجة مباشرة لتحطم الهياكل القديمة في أزمة ما بعد 2008.

Almost unnoticed, in the niches and hollows of the market system, whole swaths of economic life are beginning to move to a different rhythm. Parallel currencies, time banks, cooperatives and self-managed spaces have proliferated, barely noticed by the economics profession, and often as a direct result of the shattering of the old structures in the post-2008 crisis.

10

يمكنك رؤية هذا الاقتصاد الجديد فقط لو بحثت عنه. في اليونان، عندما قامت جمعية شعبية غير هادفة للربح بعمل مسح لتعاونيات الطعام، والمنتجين بطرق بديلة، والعملات الموازية وأنظمة التبادل المحلية في البلاد وجدوا أكثر من سبعين مشروعا ناجحا ومئات المبادرات المشابهة ولكن على مستوى أصغر تتراوح بين اقتحام البيوت المهجورة والعيش بها إلى المشاركة في النقل بالسيارات وحتى الحضانات المجانية. بالنسبة لعلوم الاقتصاد السائدة فإن تلك الأشياء يمكن بالكاد اعتبارها نشاطا اقتصاديا، لكن تلك هي الفكرة. هم موجودون لأنهم يتاجرون، حتى ولو بشكل متردد وغير فعال، ويستخدمون عملة ما بعد الرأسمالية: أوقات الفراغ، وأنشطة التشبيك والأغراض المجانية. تبدو تلك الأشياء هزيلة وغير رسمية وحتى خطيرة للاعتماد عليها لبناء بديل كامل عن النظام العالمي، لكن النقد والائتمان البنكي كانا كذلك في عصر إدوارد الثالث.

لا تمكن رؤية هذا الاقتصاد الجديد إلّا بالنَّظر الفاحص. في اليونان مَسَحَتْ مؤسَّسةٌ غير حكومية تعاونيّات إنتاج الغذاء و المنتجين المغايرين والاقتصادات الموازية و نُظُم التَّبادل المحليَّة، فوجدت أكثر من 70 مشروعًا قائمًا ومئات المبادرات الأصغر المُتراوحة ما بين المقابع (squats) والتَّشارك في السَّيارات وحضانات الأطفال المجانيَّة. في النَّظرة الاقتصاديَّة التقليديَّة فتلك كُلُّها بالكاد تتأهَّلُ لأَنْ تُحسَبَ أنشطة اقتصاديَّة، لكنَّ هذا هو بيت القصيد. فهؤلاء موجودون لأنَّهم يتداولون عُملةَ اقتصادِ مابعدالرَّأسماليَّة، ولو على مَضَض وبغير كفاءة، و تلك العُملة هي: وقتُ الفراغ، و النَّشاط المُشبَّك (networked activity)، واﻷشياء المجانية. ذلك كلُّه يبدو أكثر غثاثة و هامشيَّة بَلْ حتى أخطر مِنْ أنْ يَقُومَ عليه بديلٌ لنظامٍ عالمي؛ لكنَّ ذلك كانَ حالَ النَّقدِ و الائتمانِ على عهد إدوارد الثَّالث.

ستجد ذلك الاقتصاد الجديد فقط إن بحثت عنه عن قرب. في اليونان، عندما بحثت منظمة قاعدية غير حكومية عن التعاونيات الغذائية في البلاد، والمنتجين البدلاء، والعملات الموازية، وأنظمة المقايضة المحلية وجدت أكثر من 70 مشروعا حقيقيا ومئات المبادرات الأصغر المتراوحة بين احتلال البنايات المهجورة ومشاركة السيارات الخاصة ورياض الأطفال المجانية. بالنسبة للاقتصادات السائدة تبدو تلك الأمور بالكاد معادلة لنشاط اقتصادي – وهو المطلوب. فتلك الأنشطة متواجدة لأنها تنشط، مع كونها متعثرة وغير فعالة، عملية نظام ما بعد الرأسمالية، المشتملة على: وقت الفراغ، النشاط الشبكي والأمور المجانية. يبدو الأمر هزيلا وغير رسمي، بل وخطيرا ليصاغ على أساسه بديل كامل لنظام عالمي، ولكن يشبه ذلك حال الأموال والأرصدة في عصر إدوارد الثالث.

You only find this new economy if you look hard for it. In Greece, when a grassroots NGO mapped the country’s food co-ops, alternative producers, parallel currencies and local exchange systems they found more than 70 substantive projects and hundreds of smaller initiatives ranging from squats to carpools to free kindergartens. To mainstream economics such things seem barely to qualify as economic activity – but that’s the point. They exist because they trade, however haltingly and inefficiently, in the currency of postcapitalism: free time, networked activity and free stuff. It seems a meagre and unofficial and even dangerous thing from which to craft an entire alternative to a global system, but so did money and credit in the age of Edward III.

1

أشكال جديدة من الملكية وأشكال جديدة من الائتمان وعقود قانونية جديدة. ثقافة فرعية كاملة ظهرت في مجال الأعمال خلال العشر سنوات الماضية، وأطلقت عليها وسائل الإعلام “اقتصاد المشاركة”. يُطلق البعض كلمات رنانة على تلك المشروعات مثل “المشاعيات” و”الإنتاج الندّي”، ولكن قليلون من تحملوا عناء السؤال عما تعنيه تلك التطورات على الرأسمالية نفسها.

أشكالٌ جديدة للملكيَّة، أشكالٌ جديدة للإقراض، عقود قانونيَّة جديدة: نُصْبٌ جديد للأعمال قد علا خلال السَّنوات العشرة الأخيرة، و هو ما أسمته الميديا ”اقتصاد التَّشارك“ (sharing economy). كلمات طنّانة مثل ”المشاعات“ و ”الإنتاج النِّدِّيِّ“ تُلقى يُمنة و يُسرة، بَيْدَ أنَّ قِلَّةَ مِنْ النَّاس انشغلوا بمسألة أثَر هذا التطوّر على الرأسمالية ذاتها.

تمثل الصور الجديدة من الملكية، والصور الجديدة من الإقراض، والعقود القانونية الجديدة ثقافة فرعية جديدة من الأعمال التي ظهرت على مدار السنوات العشر الماضية، والتي أطلق عليها الإعلام اسم "اقتصاد المشاركة". كما يتردد صدى كلمات رنانة مثل "المشاعات" و"التضافر الجماعي"، إلا أن القليل عني بالتسائل حول أثر ذلك التطور على الرأسمالية ذاتها.

New forms of ownership, new forms of lending, new legal contracts: a whole business subculture has emerged over the past 10 years, which the media has dubbed the “sharing economy”. Buzzwords such as the “commons” and “peer-production” are thrown around, but few have bothered to ask what this development means for capitalism itself.

12

أعتقد أنها توفر طريقا آخر خارج الطرق التقليدية، لكن هذا مرهون بتغذية تلك المشاريع متناهية الصغر والترويج لها وحمايتها من خلال تغييرات جذرية في سياسات الحكومات. هذه التغييرات يجب أن تكون مدفوعة بتغير في أفكارنا حول مفاهيم التقنية والملكية والعمل. ومن ثم عندما نخلق عناصر النظام الجديد يمكننا أن نقول لأنفسنا وللآخرين “هذه ليست محاولة للنجاة، ولا كهف لحمايتي من عالم الليبرالية الجديدة، ولكنها طريقة جديدة للحياة ما زالت في طور التشكل”.

أرى أنَّ هذا التطوُّر يجعل للرأسمالية مخرجًا؛ بشرط أنْ تُرعى تلك المشروعات الصُّغرَوِيَّة وتُروَّج وتُحمى بتغيير جوهري في كيفية عمل الحكومات. وهذا ينبغي أنْ يكون مُحرِّكَه تَغيُّر في كيفية تفكيرنا فيما يخصُّ التِّقنية و الملكيَّة و العمل، بحيث يكون بوسعنا -و نحن نَبْتَكِر عناصر النظام الجديد- القَوْلُ لأنفسنا و للآخرين: ”هذه ما عادت مُجرَّد وسيلتي الذّاتية للبقاء.. ملاذي من العالم النِّيوليبرالي.. بل هي طريقة حياة جديدة قيد التَّشكُّل“

أعتقد أنه يوفر مخرجا – ولكن فقط في حال قوبلت تلك المشروعات ضئيلة الحجم بالرعاية، والدعم، والحماية عبر تغيير جذري في سلوك الحكومات. ويجب أن يكون ذلك مدفوعا بتغيير في تفكيرنا – بشأن التكنولوجيا، والملكية والعمل. حتى يمكننا عند إنشاء عناصر النظام الجديد أن نقول لأنفسنا، وللآخرين: "لم يعد ذلك ببساطة آلية للصمود، وسبيل للهروب من العالم الليبرالي الجديد، بل إنه أسلوب جديد للمعيشة في خضم التشكل".

I believe it offers an escape route – but only if these micro-level projects are nurtured, promoted and protected by a fundamental change in what governments do. And this must be driven by a change in our thinking – about technology, ownership and work. So that, when we create the elements of the new system, we can say to ourselves, and to others: “This is no longer simply my survival mechanism, my bolt hole from the neoliberal world; this is a new way of living in the process of formation.”

13

الانهيار الذي حدث عام 2008 قضى على 13 بالمائة من الإنتاج العالمي و20 بالمائة من التجارة العالمية. وأصبح معدل النمو بالسالب على مقياس يَعتبِر أي نمو أقل من 3 بالمائة بالموجب بمثابة ركود اقتصادي. أنتجت الأزمة في الغرب فترة كساد أطول من الكساد الكبير بين عامي 1929 و 1933. ومازال علماء الاقتصاد السائد خائفين من فكرة حدوث كساد لفترة طويلة حتى في ظل التعافي البطيء الذي يشهده الاقتصاد العالمي. ولا تزال تبعات الصدمة في أوروبا تمزق القارة.

انهيار سنة 2008 خسف بما قدره 13% من النَّاتج العالمي و 20% من التِّجارة العالميَّة. النُّموُّ الإجمالي العالمي صار سلبيًا، على مقياسٍ فيه كُلُّ ما يدنو 3% يُحسبُ انكماشًا. و قد أَنتجَ في الغرب مرحلةَ كسادٍ أطولَ مِمَّا كانت في 1929-1933؛ و إلى الآن، برغم التَّعافي الهزيل، لا يزال الاقتصاديّون التقليديّون مذعورين من شبح الرُّكود طويل المدى. موجاتُ الصَّدم في أورُبا تُمزِّق القارَّة.

قضت أزمة عام 2008 على 10 بالمئة من الإنتاج العالمي و20 بالمئة من التجارة العالمية. أصبح معدل النمو العالمي بالسالب – على مقياس يعتبر أي نسبة أقل من 3 بالمئة ركودا. وأنتجت، في الغرب، مرحلة كساد أطول من التي استمرت بين عامي 1929 – 1933، وحتى الآن، مع انحسار الأزمة على نحو ضعيف، أصبحت الاقتصادات السائدة خائفة من احتمالية حدوث ركود على المدى البعيد. بينما تؤدي التوابع في الأوروبا إلى تمزيق القارة.

The 2008 crash wiped 13% off global production and 20% off global trade. Global growth became negative – on a scale where anything below +3% is counted as a recession. It produced, in the west, a depression phase longer than in 1929-33, and even now, amid a pallid recovery, has left mainstream economists terrified about the prospect of long-term stagnation. The aftershocks in Europe are tearing the continent apart.

14

الحلول المطروحة هي حزم التقشف ومحاولة تحقيق أرباح مالية لكن تلك الحلول لم تفلح. الدول التي تأثرت بشكل أكبر خلال الأزمة، دُمرت أنظمة التقاعد فيها وارتفع سن المعاش إلى سبعين عاما ويتعرض التعليم فيها إلى الخصخصة وهو ما سيجعل الخريجين الجدد يعانون من الدين بقية أعمارهم. كما تتعرض الخدمات إلى التفكك بالإضافة إلى إيقاف مشاريع البنية التحتية.

الحلولُ المقترحةُ تمثَّلت في التَّقشِّف و تحقيق فوائض نقديَّة، لكنَّها ليست ناجعة. ففي البلاد الأنكى مُصيبةً تَضَعْضَعَتْ نُظُمُ المعاشات و زاد سِنُّ التَّقاعد فوصل إلى 70 سنة، و التَّعليم تتواصل خَصْخَصَتُهُ بحيث يكون على المُتخرِّجين اليوم التَّعايش مع ديون طائلة طوال حياتهم. و الخدمات العموميَّة يجري تفكيكها و مشروعات البِنى التحتية تُجمَّد.

تمثلت الحلول في التقشف مع وجود فائض نقدي. ولكنها غير مجدية. ففي الدول الأكثر تضررا، تعرض نظام المعاشات للتدمير، وارتفع سن التقاعد إلى الـ70، وتمت خصخصة التعليم، وبالتالي يواجه المتخرجون الآن ديونا مرتفعة تستمر طوال العمر. وتتعرض الخدمات للتفكيك وتعلق مشاريع البنية التحتية.

The solutions have been austerity plus monetary excess. But they are not working. In the worst-hit countries, the pension system has been destroyed, the retirement age is being hiked to 70, and education is being privatised so that graduates now face a lifetime of high debt. Services are being dismantled and infrastructure projects put on hold.

15

لا يعرف الكثير من الناس حتى الآن ما هو المعنى الحقيقي لكلمة “تقشف”. التقشف ليس تقليل النفقات لمدة ثمان سنوات كما تفعل المملكة المتحدة ولا هو الكارثة الاجتماعية التي لحقت باليونان. التقشف يعني أن تنخفض المرتبات والدعم الاجتماعي ومستويات المعيشة في الغرب لمدة عقود حتى تصبح في نفس مستوى الطبقة الوسطى في الصين والهند.

مع ذلك كُلِّه لا يزال أناسٌ كثيرون غير قادرين على استيعاب المعنى الفعلي لكلمة ”تقشُّف“. التَّقشُّف لا يقتصر على ثمانِ سنواتٍ من خفض النَّفقات كما في المملكة المُتَّحدة و لا يقتصر حتَّى على الطَّامة الاجتماعية التي وقعت باليونان. بل معناه دفع الأجور و الضَّمانات الاجتماعيَّة و مستوى المعيشة في الغرب إلى التَّردّي لعقودٍ إلى أنْ تتلاقى مع ما للطَّبقة الوسطى في الصين و الهند في صعودهما.

حتى في الوقت الراهن يفشل الكثيرون في إدراك المعنى الحقيقي لكلمة "تقشف". فالتقشف ليس ثمان سنوات من تخفيض الإنفاق، كما الحال في المملكة المتحدة، أو حتى الكارثة الاجتماعية التي لحقت باليونان. بل يعني خفض الأجور، والأجور الاجتماعية ومستويات المعيشة في الغرب لمدة عقود حتى تماثل أجور الطبقة المتوسطة في الصين والهند في طريقها للصعود مجددا.

Even now many people fail to grasp the true meaning of the word “austerity”. Austerity is not eight years of spending cuts, as in the UK, or even the social catastrophe inflicted on Greece. It means driving the wages, social wages and living standards in the west down for decades until they meet those of the middle class in China and India on the way up.

16

مع غياب أي نموذج بديل، فإن شروط حدوث أزمة أخرى موجودة ومجتمعة. عانت الأجور الحقيقية في اليابان وجنوب منطقة اليورو والولايات المتحدة والمملكة المتحدة من انخفاض أو ركود. وظهرت مرة أخرى بنوك الظل بشكل أكبر مما كانت عليه عام 2008. القواعد الجديدة التي تطالب البنوك بالحفاظ على معدلات أكبر من الاحتياطي تم تخفيفها أو تعطيلها. في نفس الوقت جعلت النقود المجانية التي تم ضخها في الاقتصاد العالمي، نخبة الواحد بالمائة أكثر ثراءً.

في غياب أيِّ نموذج بديل صالح فإنَّ الظُّروف لأزمة أخرى تتهيَّأ. القيمة الفعليَّة للأجور قد تدَّنت أو بقيت راكدة في اليابان و جنوب منطقة اليورو و الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة و المملكة المتَّحدة. النِّظام المصرفي الموازي قد استُعيد وهو الآن أكبر ممَّا كان عليه في 2008. القواعد الجديدة التي تَفرِضُ على البنوك الاحتفاظ باحتياطيَّات أكبر قد خُفِّفَت أو أُرجِئت. في غضون ذلك فإنَّ زُمرة 1% الأغنى قد ازدادوا غنى بالأموال المجّانيَّة المنهمرة عليهم.

في غضون ذلك، وفي غياب أي نموذج بديل، تتوافر ظروف حدوث أزمة أخرى. فقد هبطت الأجور الحقيقية أو ظلت راكدة في اليابان، وجنوب منطقة اليورو، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة. وأعيد تجميع نظام الظل المصرفي، وأصبح الآن أكبر مما كان عليه عام 2008. تم تخفيف أو تأخير القوانين الجديدة التي تلزم البنوك بالاحتفاظ بالمزيد من الاحتياطيات. وفي غضون ذلك، ازداد غنى طبقة الواحد بالمئة بعد أن تدفقت عليها الأموال المجانية.

Meanwhile in the absence of any alternative model, the conditions for another crisis are being assembled. Real wages have fallen or remained stagnant in Japan, the southern Eurozone, the US and UK. The shadow banking system has been reassembled, and is now bigger than it was in 2008. New rules demanding banks hold more reserves have been watered down or delayed. Meanwhile, flushed with free money, the 1% has got richer.

17

تحولت الليبرالية الجديدة إلى نظام مصمم للتسبب في فشل كارثي ومتكرر. الأسوأ من هذا، أن الليبرالية الجديدة كسرت النمط الذي انتهجته الرأسمالية الصناعية على مدار 200 عام. في كل مرة تحدث أزمة اقتصادية، تظهر أشكال جديدة من الابتكارات التقنية تصب في مصلحة الجميع.

النِّيوليبراليَّة إذن قد استحالت نظامًا مُبرمَجًا لإحداث إخفاقات كارثيَّة متواترة. والأسوأ من ذلك أنَّها قد خرَّبت نمط مئتي عام من الرَّأسماليَّة الصِّناعيَّة كانت فيه الأزمات الاقتصاديَّة تتفتَّق عن أشكال جديدة مِنْ الابتكار التِّقني الذي يفيد الكافَّة.

وبالتالي فإن الليبرالية الجديدة تحولت إلى نظام مصمم لإحداث إخفاقات كارثية متكررة. والأسوء من ذلك، كسر نموذج المائتي عام من الرأسمالية الصناعية، التي في ظلها تعزز الأزمة الاقتصادية صورا جديدة من الابتكار التكنولوجي الذي يعود بالنفع على الجميع.

Neoliberalism, then, has morphed into a system programmed to inflict recurrent catastrophic failures. Worse than that, it has broken the 200-year pattern of industrial capitalism wherein an economic crisis spurs new forms of technological innovation that benefit everybody.

18

يرجع هذا إلى أن الليبرالية الجديدة كانت أول نموذج اقتصادي خلال مائتي عام يعتمد في ازدهاره على تقليل الرواتب وتدمير مرونة الطبقة العاملة والقوى الاجتماعية. عند مراجعة فترات التغير الكبيرة التي درسها منظرو دورات رأس المال على المدى الطويل والتي حدثت عام 1850 في أوروبا، وعام 1900 و1950 على مستوى العالم، سنجد أن قوة العمل المنظمة هي التي أجبرت رجال الأعمال والشركات على التوقف عن محاولات الحفاظ على نماذج عمل قديمة من خلال اقتطاع الأجور، ومساعدتهم في ابتكار طرقهم الخاصة لشكل جديد من الرأسمالية.

ذلك لأنَّ النِّيوليبراليَّة كانت النَّموذج الاقتصادي الأوَّل في مئتي عام الذي كان صُعوده قائمًا على خسف الأجور وتحطيم القدرة الاجتماعيَّة وحيويَّة الطَّبقة العاملة. إنْ راجعنا فترات الانطلاق التي درسها مُنَظِّرُو الدَّورات الطَّويلة -عِقد 1850 في أورُبَّا و 1900 و1950 عالميًّا- لوجدنا أنَّ القُوَّة المُنظَّمة للقُوى العاملة هي التي منعت المستثمرين والشَّركات مِنْ مواصلة محاولة إعادة تقديم نماذج أعمال عتيقة تتمثَّل في خفض الأجور، ودفعتهم عِوضًا عن ذلك إلى طَرْقِ سبيل ابتكارِ شكلٍ جديد للرَّأسماليَّة.

يعود ذلك إلى كون الليبرالية الجديدة أول نموذج اقتصادي يقوم صعوده على خفض الأجور وسحق القوة الاجتماعية والصمود للطبقة العاملة. إن راجعنا فترات الانتعاش الاقتصادي التي درسها منظري الدورة الطويلة – الخمسينيات في أوروبا، والعقد الأول من القرن العشرين والخمسينيات في أنحاء العالم – عندما أجبرت القوة العمالية المنظمة رجال الأعمال والشركات على وقف محاولاتهم لإحياء نماذج أعمال منتهية الصلاحية عبر خفض الأجور، ونسج طريقهم نحو صورة جديدة من الرأسمالية.

That is because neoliberalism was the first economic model in 200 years the upswing of which was premised on the suppression of wages and smashing the social power and resilience of the working class. If we review the take-off periods studied by long-cycle theorists – the 1850s in Europe, the 1900s and 1950s across the globe – it was the strength of organised labour that forced entrepreneurs and corporations to stop trying to revive outdated business models through wage cuts, and to innovate their way to a new form of capitalism.

19

كانت النتيجة أنه مع كل صعود للرأسمالية، هناك ظهور لأشكال جديدة من الميكنة، مصاحب بارتفاع الرواتب وارتفاع قيمة الاستهلاك. في الوقت المعاصر، لا تملك قوة العمل القدرة على الضغط، كما أن التقنية الجديدة الموجودة في قلب موجة التجديد الحالية لا تتطلب إنفاقًا أعلى من المستهلكين، أو إعادة توظيف العمالة القديمة في وظائف جديدة. المعلومات هي ماكينة لسحق الأسعار وتقليل أوقات العمل اللازمة لدعم الحياة على الكوكب.

كانت النَّتيجة أنَّنا وجدنا بالتَّواكب مع كُلَّ صَعدَةٍ توليفًا جديدًا من المَيكَنَة والأجور الأعلى والاستهلاك الأعلى قيمةً. اليوم لا تقع ضغوط مِنْ القوى العاملة، والتِّقنيَة التي في قلب موجة الابتكار الحاليَّة لا تتطلَّب إنفاقًا استهلاكيًا أكبر، ولا إعادة توظيف قوى العمل في وظائف جديدة. المعلومات آلة لطحن أسعار كُلِّ شيء وتهشيم مُدَّة العمل اللازم لإقامة الأوَد على هذا الكوكب.

كانت النتيجة أنه في كل صعود ملحوظ وجدنا تطورا للتشغيل الآلي، وأجورا أعلى وقيمة أعلى للاستهلاك. اليوم لا توجد ضغوط من القوة العاملة، والتكنولوجيا القائمة في مركز تلك الموجة الابتكارية لا تستلزم خلق إنفاق أعلى، أو إعادة توظيف القوة العاملة القديمة في وظائف جديدة. بل تمثل المعلومات آلة لخفض أسعار البضائع وخفض وقت العمل اللازم لدعم الحياة على الكوكب.

The result is that, in each upswing, we find a synthesis of automation, higher wages and higher-value consumption. Today there is no pressure from the workforce, and the technology at the centre of this innovation wave does not demand the creation of higher-consumer spending, or the re‑employment of the old workforce in new jobs. Information is a machine for grinding the price of things lower and slashing the work time needed to support life on the planet.

20

كنتيجة لذلك، أصبح الكثير من طبقة رجال الأعمال معادين للتقنيات الجديدة. فبدلا من الاستثمار في معامل لتحليل الحامض النووي، يقومون بافتتاح مقاهٍ ومحلات للعناية بالأظافر وشركات تنظيف. يحتفي النظام البنكي ونظام التخطيط وثقافة الليبرالية الجديدة في أطوارها الأخيرة بمن يخلق وظائف زهيدة القيمة وتتطلب ساعات عمل طويلة أكثر من أي شيء آخر.

نتيجة لذلك فإنَّ قسمًا كبيرًا من طبقة رجال الأعمال قد صاروا لوديّين جُدُد. فمع إمكانيَّة إنشاء معامل تتابع الجينات نجدهم عوضًا عن ذلك يُنشِئون مقاهي، وحانات تقليم الأظافر، وشركات تنظيف بالتَّعاقد: النِّظام المصرفي ومنظومة التَّخطيط والثَّقافة النِّيوليبراليَّة الحديثة تُحابي خالقي الوظائف قليلة القيمة طويلة الدَّوَام.

نتيجة لذلك، تحولت أجزاء كبيرة من طبقة الأعمال إلى اللودية الجديدة. في مواجهة احتمالية إنشاء مختبرات للتسلسل الجيني، أنشئت تلك الأجزاء مقاهي ومحال تجميل الأظافر، وشركات عقود التنظيف: حيث يكافئ النظام المصرفي، ونظام التخطيط والثقافة الليبرالية الجديدة قبل كل شيء منشئ الوظائف ذات القيمة المنخفضة وساعات العمل الطويلة.

As a result, large parts of the business class have become neo-luddites. Faced with the possibility of creating gene-sequencing labs, they instead start coffee shops, nail bars and contract cleaning firms: the banking system, the planning system and late neoliberal culture reward above all the creator of low-value, long-hours jobs.

2

التجديد يحدث ولكن حتى الآن لم يتسبب في الصعود الخامس الكبير للرأسمالية كما توقعته نظريات دورات رأس المال طويلة الأمد. يكمن السبب وراء هذا في الطبيعة الخاصة لتكنولوجيا المعلومات.

الابتكار موجود، إلا أنّه لَمْ يُحفِّز إلى الآن الصَّعْدَةَ الخامسة الطَّويلة للرَّأسماليَّة التي تتنبَّأ بها نظريَّة الدَّورة الطَّويلة. والأسباب تكمن في طبيعة تقنيَة المعلوماتيَّة.

الابتكار يحدث ولكنه لم يبدأ، حتى الآن، موجة الصعود الطويلة الخامسة للرأسمالية التي قد تتوقعها نظرية الدورة الطويلة. وتكمن الأسباب في الطبيعة الخاصة لتكنولوجيا المعلومات.

Innovation is happening but it has not, so far, triggered the fifth long upswing for capitalism that long-cycle theory would expect. The reasons lie in the specific nature of information technology.

22

نحن محاطون ليس فقط بماكينات ذكية ولكن بمستوى جديد من الواقع يتمحور حول المعلومات. خذ الطائرة على سبيل المثال، يقوم حاسوب بتشغيلها، وصُممت وخضعت لاختبارات إجهاد و”صُنعت افتراضيا” ملايين المرات. وتقوم الطائرة بإرسال معلومات لصانعيها في وقت حدوث مشكلة. على متن الطائرة يشاهد الناس شاشات موصولة بالإنترنت.

نحن لسنا محاطين وحسب بالآلات الذَّكيَّة بَلْ كذلك بطبقة جديدة مِنْ الواقع تقوم على المعلومات. تَصَوَّر طَيَّارة السَّفر: الحاسوب يُطَيِّرها، وقد صُمِّمَت واختُبِرَت بالمُحاكاة في الظُّروف القصوى و”صٌنِّعت افتراضيًا“ ملايين المرَّات، وهي ترسل إلى صانعها في الوقت الحقيقي معلومات عن ظروف تشغيلها. وعلى متنها مسافرون يُحدِّقون في شاشات متَّصلة بالإنترنت، في بعض البلدان المحظوظة.

نحن لسنا محاطين بالماكينات الذكية فقط، بل وبطبقة جديدة من الواقع مرتكزة على المعلومات. وعند دراسة الطائرة، نجد أن هناك حاسوب يجعلها تحلق، وقد صمم واختبر عمله تحت ضغط و"صنع بشكل عملي" لملايين المرات، حيث يرسل معلومات فورية إلى مصنعيه. وعلى متن الطائرة نجد أشخاصا محدقين بشاشات متصلة بالإنترنت، في بعض الدول الأوفر حظا.

We’re surrounded not just by intelligent machines but by a new layer of reality centred on information. Consider an airliner: a computer flies it; it has been designed, stress-tested and “virtually manufactured” millions of times; it is firing back real-time information to its manufacturers. On board are people squinting at screens connected, in some lucky countries, to the internet.

23

عند رؤية الطائرة من الأرض، فإنها ما زالت تبدو كطائر أبيض معدني كالموجود في عصر جيمس بوند. لكنها الآن أصبحت ماكينة ذكية وتمثل نقطة في شبكة أكبر. الطائرة مزودة بمحتوى معلوماتي وتضيف “قيمة معلوماتية” بجانب القيمة الفيزيائية إلى العالم. في رحلة رجال الأعمال المزدحمة حيث يستخدم الجميع الأكسل والباور بوينت على الإنترنت، يمكن فهم كابينة الطائرة بشكل واضح باعتبارها مصنعًا للمعلومات.

النَّاظر إليها مِنْ الأرض يراها نفس الطَّائر المعدني الأبيض الذي كان في عصر جيمس بوند. لكنَّها الآن صارت آلة ذكية وعُقدة في الشَّبكة. صار بها محتوى معلوماتي وهي تضيف ”قيمة معلوماتيَّة“ إلى جانب قيمتها الماديَّة في العالم. على متن رحلة ملآنة، وعندما يكون المسافرون كلُّهم مشغولين بجداولهم المُمتدَّة وعروضهم التقديميَّة، فإنَّ قمرة الرُّكّاب يكون أفضل وصف لها أنَّها مصنع معلومات.

عند رؤيتها من الأرض نجد أنها نفس الطائر المعدني الأبيض كحالها في حقبة جيمس بوند. ولكنها الآن تعتبر ماكينة ذكية وعقدة في شبكة. ولديها محتوى معلوماتي، وتضيف "قيمة معلوماتية" وكذلك قيمة مادية إلى العالم. ففي الرحلة التجارية المزدحمة، عندما يكون الجميع محدقا في برنامج "الإكسل" أو "باوربوينت"، تعتبر كابينة الركاب بشكل أفضل مصنعا للمعلومات.

Seen from the ground it is the same white metal bird as in the James Bond era. But it is now both an intelligent machine and a node on a network. It has an information content and is adding “information value” as well as physical value to the world. On a packed business flight, when everyone’s peering at Excel or Powerpoint, the passenger cabin is best understood as an information factory.

24

ما هي قيمة كل تلك المعلومات؟ لن تجد الإجابة على هذا السؤال في دفاتر الحسابات. تعتمد المعايير الحديثة للمحاسبة على التخمين في تثمين الملكية الفكرية. في عام 2013، وجدت دراسة أجراها معهد أنظمة تحليل البيانات أنه عند تسعير المعلومات، سواء باستخدام تكلفة جمعها أو قيمتها السوقية أو الدخل المتوقع منها، فإن قيمتها الحقيقة لا يمكن تحديدها بشكل صحيح. ولا يمكن للشركات شرح القيمة السوقية للبيانات التي يمتلكونها لحملة الأسهم إلا من خلال طرق حسابية تتضمن أرباح ومخاطر غير اقتصادية. هناك خلل ما في منطق تسعير أهم شيء في العصر الحديث.

لكنْ ما قيمة كُلِّ تلك المعلومات؟ لَنْ نجد إجابة لهذا السُّؤال في دفاترنا: الملكية الفكريَّة تُثمَّن في معايير المحاسبة الحديثة بالتَّخمين المحض. فقد وَجَدَتْ دراسة معهد SIS سنة 2013 أنَّه لأجْلِ تثمين البيانات فإنَّه لا يُمكِن حساب أيًّ من قيمة جَمْعِها ولا قيمتها السُّوقيَّة ولا الدَّخل المتوقَّع منها بدقَّة. وأنَّه لا يمكن للشَّركات تفسير قيمة بياناتها لحملة الأسهم إلَّا بنمط محاسبي يأخذ في الحُسبان الفوائد غير الاقتصاديَّة والمخاطر غير الاقتصاديَّة. يوجد خَلَلٌ في المنطق الذي به نُثَّمِنُ به أهمَّ ما في العالم المعاصر.

ولكن ما قيمة كل هذه المعلومات؟ لن تجد إجابة في الحسابات: فقيمة الملكية الفكرية في معايير المحاسبة الحديثة تتحدد وفق التخمينات. اكتشفت دراسة لمعهد "ساس" في عام 2013 أنه، من أجل تعيين قيمة للمعلومات، لا يمكن حساب قيمة تجميعها ولا القيمة السوقية أو الدخل المستقبلي العائد منها بشكل كاف. فقط عبر صورة من الحساب التي تشمل الفوائد، والمخاطر، غير الاقتصادية، تستطيع الشركات أن توضح للمساهمين القيمة الحقيقية لمعلوماتهم. هناك شيء مكسور في المنطق الذي نستخدمه لتقييم الشيء الأهم في العالم الحديث.

But what is all this information worth? You won’t find an answer in the accounts: intellectual property is valued in modern accounting standards by guesswork. A study for the SAS Institute in 2013 found that, in order to put a value on data, neither the cost of gathering it, nor the market value or the future income from it could be adequately calculated. Only through a form of accounting that included non-economic benefits, and risks, could companies actually explain to their shareholders what their data was really worth. Something is broken in the logic we use to value the most important thing in the modern world.

25

التطور التقني الهائل في أوائل القرن الواحد والعشرين لا يشمل فقط ابتكار أدوات وطرق جديدة ولكنه يتضمن أيضا جعل أشياء قديمة تصبح أكثر ذكاءً. المحتوى المعرفي للسلع أصبح أكثر أهمية من الأشياء المادية المستخدمة في إنتاجهم. لكن تلك القيمة لا يمكن قياسها إلا من خلال فائدتها وليس بقدرتها على المبادلة أو القدرة على مراكمتها كأصول. خلال فترة التسعينات، بدأ الاقتصاديون ورواد التقنية يفكرون في نفس الشيء، وهو أن الدور الجديد الذي تلعبه المعلومات سيخلق نوعًا ثالثًا جديدًا من الرأسمالية يختلف عن الرأسمالية الصناعية، كما كانت الرأسمالية الصناعية تختلف عن رأسمالية التجار والعبيد التي كانت موجودة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن كلا الفريقين وجد صعوبة كبيرة في توصيف ديناميكيات تلك الرأسمالية الجديدة. هذا العجز يعود إلى أن تلك الديناميكيات في عمقها ليست رأسمالية.

التَّقدُّم التِّقني العظيم في القرن الحادي والعشرين لا يتألَّف وحسب مِنْ موجودات و صيرورات جديدة، بَلْ كذلك مِنْ إضفاء الذَّكاء على العتيق منها. المحتوى المعرفي للمنتجات أصبح قيِّمًا أكثر من الأشياء المادِّيَّة المستعملة في إنتاجها. لكنَّها قيمة مُقاسة بالنَّفع، لا بالتَّبادل ولا بقيمة الأصول. في عِقد 1990 بدأت تبزُغ للاقتصاديّين و التقنيّين الفكرة ذاتها في الوقت ذاته: أنَّ الدَّور الجديد للمعلومات بدأ يوجِد نوعًا جديدًا ”ثالثًا“ من الرَّأسماليَّة يختلف عن الرَّأسماليَّة الصِّناعيَّة بقدر اختلاف الرَّأسماليَّة الصِّناعيَّة عن رأسماليَّة التُّجَّار والعبيد التي سادت في القرنين السابع والثامن عشر. لكنَّهم تعثَّروا في اجتهادهم في وصف ديناميكيَّات هذه الرَّأسماليَّة المعرفيَّة الجديدة، والسَّبب في ذلك وجيه: فديناميكيَّاتها قطعًا ليست رأسماليَّة.

التقدم التكنولوجي الكبير في مطلع القرن الحادي والعشرين لا يتكون فقط من أهداف وعمليات جديدة، بل من أهداف وعمليات قديمة أصبحت ذكية. والمحتوى المعرفي للمنتجات يصبح أكبر قيمة من الأمور المادية المستخدمة في إنتاجها. ولكنها قيمة تقاس وفق المنفعة، وليس وفق قيمتها التبادلية أو قيمتها كأصل ثابت. في التسعينات، بدأ الاقتصاديون والتكنولوجيون في حمل نفس الفكرة في ذات الوقت، وهي أن ذلك الدور الجديد للمعلومات ينشأ نوعا جديدا و"ثالثا" من الرأسمالية – ويختلف عن الرأسمالية الصناعية كاختلاف الرأسمالية الصناعية عن رأسمالية التجارة والرقيق خلال القرن السابع عشر والثامن عشر. ولكنهم صارعوا من أجل وصف ديناميكيات الرأسمالية "المعرفية" الجديدة. ولأسباب جيدة. تعتبر ديناميكياتها غير رأسمالية بشكل عميق.

The great technological advance of the early 21st century consists not only of new objects and processes, but of old ones made intelligent. The knowledge content of products is becoming more valuable than the physical things that are used to produce them. But it is a value measured as usefulness, not exchange or asset value. In the 1990s economists and technologists began to have the same thought at once: that this new role for information was creating a new, “third” kind of capitalism – as different from industrial capitalism as industrial capitalism was to the merchant and slave capitalism of the 17th and 18th centuries. But they have struggled to describe the dynamics of the new “cognitive” capitalism. And for a reason. Its dynamics are profoundly non-capitalist.

26

خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها كان علماء الاقتصاد يرون أن المعلومات “سلعة عامة”، حتى أن الحكومة الأمريكية أصدرت مرسوما يمنع استخدام براءات الاختراع نفسها في تحقيق أرباح ولكنه يسمح بالتربح من عملية الإنتاج. كانت تلك هي بداية فهم حقوق الملكية الفكرية. في عام 1962، قال كينيث أرو، أحد آباء علوم الاقتصاد السائدة، إن الغرض من اختراع أشياء جديدة في اقتصاد السوق هو خلق حقوق ملكية فكرية. وأضاف “تحديدا بسبب النجاح الكبير لتلك الاستراتيجية، فإن المعلومات لا تستخدم بشكل جيد”.

أثناء وبُعَيْدَ الحرب العالميَّة الثَّانية رأى الاقتصاديُّون المعلومات في بساطة ”كمنفعة عامة“. حتى إنَّ حكومة الولايات المتّحدة الأمريكية قرَّرت أنَّه لا يجوز جنيُ ربحٍ من براءات الاختراع، بَلْ مِنْ تطبيقاتها الإنتاجيَّة فحسب. ثُمَّ أخذنا نفهم ماهيَّة المِلْكِيَّة الفكريَّة. في سنة 1962 قال كِنِث أرُو، أُسطون الاقتصاد التَّقليدي، إنَّه في اقتصاد السُّوق الحُرِّ يكون الغرض من الاختراع خلق حقوق ملكيَّة فكريَّة. يقول: ”بقدر النَّجاح في ذلك توجد قِلَّة استغلال للمعلومات“.

أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، نظر الاقتصاديون إلى المعلومات ببساطة كـ"مصلحة عامة". حتى أن الولايات المتحدة أعلنت أنه لا يجب تحقيق أرباح من براءات الاختراع، بل من عملية الإنتاج نفسها. ثم بدأنا في فهم الملكية الفكرية. وفي عام 1962، قال كينيث آرو، المرشد الروحي للاقتصادات السائدة، إن في اقتصاد السوق الحر يكمن الهدف وراء اختراع الأشياء في خلق حقوق للملكية. وأشار: "إلى درجة أنه الاستخدام القليل للمعلومات يعتبر نجاحا".

During and right after the second world war, economists viewed information simply as a “public good”. The US government even decreed that no profit should be made out of patents, only from the production process itself. Then we began to understand intellectual property. In 1962, Kenneth Arrow, the guru of mainstream economics, said that in a free market economy the purpose of inventing things is to create intellectual property rights. He noted: “precisely to the extent that it is successful there is an underutilisation of information.”

27

يمكنك ملاحظة مدى دقة هذا الكلام عند تطبيقه على أي نموذج لإدارة الأعمال التي أُسست على شبكة الإنترنت. الاحتكار وحماية البيانات، وتحصيل البيانات الاجتماعية الناتجة عن تفاعل المستخدم، ودفع القوى التجارية إلى مساحات من الإنتاج المعلوماتي كانت غير تجارية قبل ذلك، بالإضافة إلى التنقيب داخل البيانات الموجودة بسبب قيمتها التنبؤية. دائما وفي كل مكان يتم التأكد من أنه لا يمكن لأي أحد غير الشركة استخدام النتائج.

تُمكن مشاهدة أثر تلك المقولة في كُلِّ نموذج أعمال سبراني أُوجِد على الإطلاق: احتَكِر واكنز البيانات، وامسك البيانات الاجتماعيَّة المتولِّدة عن تفاعلات المستخدِمين، وادفع بالقوى التِّجارية إلى مناطق إنتاج البيانات التي لَمْ تكن تِجاريَّة مِنْ قبل، ونَقِّب في البيانات الموجودة عَنْ قيمةٍ متوقَّعة، واحرص على ألَّا يقدر أحد غير الشَّركة على استغلال النَّواتج.

يمكنك ملاحظة تلك الحقيقة في أي نموذج قائم للأعمال الإلكترونية، حيث يبنى على احتكار وحماية البيانات، والاحتفاظ بالمعلومات الاجتماعية المجانية التي تنتج عن تفاعل المستخدمين، ودفع القوى التجارية نحو مجالات إنتاج المعلومات التي كانت غير تجارية من قبل، والتنقيب في المعلومات الموجودة عن القيمة المتوقعة – ما يضمن دائما وفي كل مكان أن لا أحد سوى الشرطة يمكنه الانتفاع من النتائج.

You can observe the truth of this in every e-business model ever constructed: monopolise and protect data, capture the free social data generated by user interaction, push commercial forces into areas of data production that were non-commercial before, mine the existing data for predictive value – always and everywhere ensuring nobody but the corporation can utilise the results.

28

لو استخدمنا مبدأ أرو بشكل مقلوب، فإن مضامينه الثورية شديدة الوضوح. لو أن وجود اقتصاد سوق حر مضافا إليه الملكية الفكرية سيؤدي إلى عدم الاستفادة من المعلومات بشكل جيد، فإن الاقتصاد الذي يعتمد على الاستخدام الأمثل للمعلومات لا يمكن أن يتضمن السوق الحرة أو حقوق الملكية الفكرية المطلقة. كل نماذج إدارة الأعمال التي تنتهجها الشركات الرقمية العملاقة الحديثة مصممة لمنع توافر المعلومات.

لو أعدنا صياغة مبدأ أرُو عكسيًا لتَبَدَّت تبعاته الثَّوريَّة: إذا كان اقتصاد السُّوق الحُرَّة مَعَ الملكيَّة الفكريَّة يؤديّان إلى ”قِلَّة استغلال المعلومات“، فإنَّ الاقتصاد القائم على تعظيم استغلال المعلومات لا يمكنه تحمُّل مُناخ السُّوق الحُرَّة ولا حقوق الملكيَّة الفكريَّة المُطْلَقة. نماذج أعمال كُلِّ العمالقة المعلوماتيّين المعاصرين مُصمَّمة لمنع الوفرة المعلوماتيَّة.

إن أعدنا وضع مبدأ آرو على نحو معكوس، سنجد عواقبه الثورية واضحة: إن كان اقتصاد السوق الحر والملكية الفكرية يؤديان إلى "استخدام قليل للمعلومات"، فإن الاقتصاد القائم على الاستخدام الكامل للمعلومات لا يمكنه التسامح مع السوق الحر أو حقوق الملكية الفكرية المطلقة. وجميع نماذج الأعمال الخاصة بالشركات الرقمية المعاصرة العملاقة مصممة لمنع وفرة المعلومات.

If we restate Arrow’s principle in reverse, its revolutionary implications are obvious: if a free market economy plus intellectual property leads to the “underutilisation of information”, then an economy based on the full utilisation of information cannot tolerate the free market or absolute intellectual property rights. The business models of all our modern digital giants are designed to prevent the abundance of information.

29

ولكن المعلومات متوفرة بغزارة. السلع المعلوماتية يمكن نسخها بسهولة. بمجرد إنتاج أي شيء، يمكن نسخه ولصقه عددًا لا نهائيًا من المرات. هناك تكلفة لإنتاج مقطع موسيقي أو لتصميم قاعدة البيانات العملاقة المستخدمة في بناء طائرة، لكن تكلفة إعادة إنتاجهما تقترب من الصفر. ومن ثم لو تم تطبيق قواعد التسعير الرأسمالية العادية، ستقترب أسعار تلك المنتجات مع مرور الوقت من الصفر أيضا.

مع ذلك فالمعلومات وفيرة، إذ يمكن استنساخ السِّلع المعلوماتيَّة بلا قيد. فَفَوْرَ صنع شيءٍ منها يمكن نسخه و لصقه بلا حدود. كُلٌّ مِنْ القطعة الموسيقيَّة و قاعدة البيانات العملاقة التي تُستخدَم في بناء الطيّارة لها تكلفة إنتاج، إلّا أنَّ تكلفة نسخها تَؤُول إلى الصِّفر. لذا فإذا سادت آليَّة السِّعر الرَّأسماليَّة على مدى الزَّمن فإنَّ ثمنها سيؤول إلى الصِّفر أيضًا.

إلا أن المعلومات غزيرة. ويتم نسخ البضائع المعلوماتية على نحو حر. فبمجرد صنع منتج معلوماتي، يمكن نسخه ولصقه على نحو لا نهائي. هناك تكلفة إنتاج لأي منتج، سواء أكان مقطع موسيقي أو قاعدة بيانات ضخمة تستخدم في بناء طائرة، ولكن تكلفة إعادة إنتاجها تقارب الصفر. وبالتالي، إن كانت آلية التسعير العادية في الرأسمالية تسود مع مرور الوقت، فإن سعرها سيهبط ليقارب الصفر أيضا.

Yet information is abundant. Information goods are freely replicable. Once a thing is made, it can be copied/pasted infinitely. A music track or the giant database you use to build an airliner has a production cost; but its cost of reproduction falls towards zero. Therefore, if the normal price mechanism of capitalism prevails over time, its price will fall towards zero, too.

30

خلال الخمسة وعشرين عاما الأخيرة كانت علوم الاقتصاد تصارع تلك المشكلة. كل علوم الاقتصاد السائدة تنطلق من افتراض حالة الندرة، وعلى الرغم من ذلك فإن أهم قوة تفاعلية في عالمنا الحديث موجودة بوفرة غزيرة أو كما قال العبقري الهيبي ستيوارت براند “تريد أن تتحرر”.

على مرِّ السَّنوات 25 الماضية كان عِلْمُ الاقتصاد يُصارِع هذه المشكلة: كُلُّ الاقتصاد التَّقليدي ينطلق مِنْ فَرْضِيَّةِ النُّدْرَةِ، و بالرُّغم مِنْ ذلك فإنَّ القُوَّة الأكثر ديناميكيَّة في عالمنا المعاصر وفيرة، وكما قال العبقري الهيبيّ سْتِيوَرْتْ بْرانْد ذات مَرَّة ”المعلومات تريد التَّحَرُّر“.

خلال السنوات الـ25 الماضية، تصارعت الاقتصادات مع تلك المشكلات: جميع الاقتصادات السائدة تنتفع ماليا من حالة الندرة، إلا أن القوة الأكثر نشاطا في عالمنا الحديث هي الغزارة، وكما وصفها الهيبي العبقري ستيورات براند سابقا: "تريد أن تكون حرة".

For the past 25 years economics has been wrestling with this problem: all mainstream economics proceeds from a condition of scarcity, yet the most dynamic force in our modern world is abundant and, as hippy genius Stewart Brand once put it, “wants to be free”.

3

بجانب عالم احتكار المعلومات والمراقبة الذي خلقته الشركات والحكومات، هناك ديناميكيات جديدة تظهر للتعامل مع استخدام المعلومات. من بينها المعلومات كسلعة اجتماعية تقدم بشكل مجاني عند استخدامها، ولا يمكن امتلاكها أو استغلالها أو تسعيرها. لقد قمت بمتابعة محاولات الاقتصاديين وكبار رجال الأعمال إيجاد إطار عمل لفهم الديناميكيات التي تحرك اقتصادًا يعتمد على معلومات متوفرة ويمتلكها الناس. في عصر التلغراف والمحرك البخاري، تخيل أحد الاقتصاديين كيف سيكون الأمر. اسمه؟ كارل ماركس.

إلى جوار عالم المعلومات المُحتَكرَة و شيوع المراقبة الذي خلقته الشَّركات والحكومات تتنامى حالة مغايرة محورها المعلومات: المعلومات كسلعة اجتماعيَّة متاحة مجانًا لحظة استعمالها، لا يمكن تملُّكها ولا استغلالها جَوْرًا ولا تسعيرها. لقد دَرَسْتُ مساعي الاقتصاديّين و أساطين الأعمال لوضع إطارٍ لفهم ديناميكيَّات اقتصادٍ يقوم على معلوماتٍ وفيرةٍ يحوزها المجتمع، فوجدتُ أنَّ تصوُّرًا له قد وضعه اقتصاديٌّ مِنْ القرن التاسع عشر في حِقبة التِّلِغراف و المحرِّك البخاري. اسمه؟ كارل ماركس.

إلى جانب عالم المعلومات المحتكرة والتجسس الذي أنشأته الشركات والحكومات، هناك نشاط مختلف ينمو حول المعلومات: فالمعلومات كمصلحة عامة، حرة من حيث الاستخدام، غير قابلة للامتلاك أو الاستغلال أو التسعير. لقد بحثت محاولات الاقتصاديين ومرشدي الأعمال لبناء إطار لفهم ديناميكيات الاقتصاد القائم على المعلومات الغزيرة التي يحملها المجتمع. ولكنها في الحقيقية كانت متخيلة من قبل أحد اقتصاديي القرن التاسع عشر في حقبة التلغراف ومحركات البخار. نعم، إنه كارل ماركس.

There is, alongside the world of monopolised information and surveillance created by corporations and governments, a different dynamic growing up around information: information as a social good, free at the point of use, incapable of being owned or exploited or priced. I’ve surveyed the attempts by economists and business gurus to build a framework to understand the dynamics of an economy based on abundant, socially-held information. But it was actually imagined by one 19th-century economist in the era of the telegraph and the steam engine. His name? Karl Marx.

32

المكان في بلدة كينتش في لندن، شهر فبراير عام 1858 قرابة الساعة الرابعة صباحا. ماركس ملاحق أمنيا في ألمانيا، ويعمل بجهد لكتابة تجارب فكرية وملاحظات لنفسه. لكن عندما سيُرى ما كتبه ماركس تلك الليلة، سيعترف مثقفو اليسار عام 1960 أن المكتوب “يمثل تحديا لأي فهم جدي طرحه أي شخص لماركس حتى الآن”. ما كتبه ماركس تلك الليلة حمل عنوان “شذرات عن الآلة”.

المشهد: كِنتِش تَاون في لندن في فبراير سنة 1858 حوالي الرَّابعة صباحًا. ماركس مُطارَد من حكومة ألمانيا، وها هو يجِدُّ في سطر تجارب عقليَّة وملاحظات لنفسه. عندما تتاح مطالعة ما خطَّه ماركس تلك اللَّيلة فإنَّ مثقّفي اليسار في عقد 1960 سيُقِرُّون بأنَّه ”يتعارض مع كُلِّ محاولة جادَّة لتفسير إرْثِ ماركس الفكري“. سُمِّيَ ذلك النَّصُّ ”قطعة الآلات“ (The Fragment on Machines).

تجري ملابسات المشهد في كينتش تاون بلندن، في فبراير 1858، في وقت يقارب الساعة 4 صباحا. ماركس مطلوب في ألمانيا وهو مجتهد في العمل حيث يدون سريعا الأفكار والتجارب والملاحظات. عندما تمكنوا أخيرا من الاطلاع على ما كتبه ماركس خلال تلك الليلة، أقر مفكرو اليسار في الستينيات بأنه "يتحدى كل تفسير افترضه ماركس حتى الآن". ويحمل اسم "التفرق على الماكينات".

The scene is Kentish Town, London, February 1858, sometime around 4am. Marx is a wanted man in Germany and is hard at work scribbling thought-experiments and notes-to-self. When they finally get to see what Marx is writing on this night, the left intellectuals of the 1960s will admit that it “challenges every serious interpretation of Marx yet conceived”. It is called “The Fragment on Machines”.

33

يتخيل ماركس في الشذرات اقتصادًا تقوم فيه الآلات بلعب الدور الرئيسي في الإنتاج بينما يكون دور البشر الأساسي هو الإشراف عليها. كان واضحا له أن اقتصادًا كهذا ستكون قوة الإنتاج الرئيسية فيه هي المعلومات. آلات مثل آلة غزل القطن والتلغراف والقاطرة البخارية لم تكن تعتمد على مقدار العمل الذي تحتاجه للإنتاج، ولكن القوة المحركة لها كانت تعتمد على معرفة اجتماعية. بعبارة أخرى، فإن المعرفة والمؤسسات ساهما في قوة الإنتاج بشكل أكبر من العمل المطلوب لصناعة وتشغيل الآلات.

في تلك القطعة تخيَّل ماركس اقتصادًا فيه دورُ الآلاتِ الإنتاجُ، و دَوْرُ البشر الإشراف عليها. و قد كان جليًّا فيما كتب كونُ القُوَّة الإنتاجيَّة الأساسيَّة في اقتصاد كذاك هي المعلومات. والقُوَّة الإنتاجيَّة لآلاتٍ مثل غزّالة القطن الآليَّة والتِّلغراف والقاطرة البخاريَّة لَمْ تكن تتوقَّف على كمِّيَّة العمل اللّازم لصنع تلك الآلات بَلْ على حالة المعرفة الاجتماعيَّة. بكلمات أخرى فإنَّ مساهمة التَّنظيم والمعرفة في القوَّة الإنتاجيَّة تفوق العمل اللّازم لصنع وتشغيل الآلات.

في "التفرق" يتخيل ماركس اقتصادا يكون فيه الدور الرئيسي للماكينات أن تنتج، والدور الرئيسي للأشخاص أن يشرفوا عليها. كان واضحا أنه، في اقتصاد مشابه، ستكون القوة المنتجة الرئيسية هي المعلومات. لم تعتمد القوة المنتجة لتلك الماكينات، مثل ماكينة غزل القطن الأوتوماتيكية والتلغراف وقاطرة البخار، على حجم العمالة الذي كان ضروريا لإنتاجها، إلا في حالة المعرفة الاجتماعية. بعبارة أخرى، التنظيم والمعرفة أسهما في القوة المنتجة أكثر مما أسهم صنع وتشغيل الماكينات.

In the “Fragment” Marx imagines an economy in which the main role of machines is to produce, and the main role of people is to supervise them. He was clear that, in such an economy, the main productive force would be information. The productive power of such machines as the automated cotton-spinning machine, the telegraph and the steam locomotive did not depend on the amount of labour it took to produce them but on the state of social knowledge. Organisation and knowledge, in other words, made a bigger contribution to productive power than the work of making and running the machines.

34

هذا الكلام ثوري، بغض النظر عما أصبحت عليه الماركسية من نظرية استغلال تعتمد على سرقة وقت العمال. يقول ماركس إنه بمجرد أن تصبح المعرفة قوة إنتاج في حد ذاتها تتجاوز قيمتها قيمة العمل الحقيقي المبذول لصناعة الآلة، فإن السؤال الأساسي لن يكون “الأرباح في مواجهة الأجور” ولكن من يتحكم فيما أطلق عليه ماركس “قوة المعرفة”.

بالنَّظر إلى ما سيؤول إليه الفكر الماركسي لاحقًا -نظريَّةً في الاستغلال بناءً على سرقة وقت العمالة- فقد كان ذلك بحقٍّ تصريحًا ثوريًّا. لأنَّه يوصلنا إلى أنَّه فور تحوُّل المعرفة في حدِّ ذاتها إلى قُوَّة إنتاج متفوِّقة على قدر العمل اللّازم لإنتاج الآلة فإنَّ المسألة لا تعود ”الأجور مقابل الأرباح“ بَلْ مسألة مَنْ يتحكَّم فيما أسماه ماركس ”قُوَّة المعرفة“.

في ضوء ما أصبحت الماركسية عليه – نظرية للاستغلال قائمة على سرقة وقت العمل – يعتبر ذلك بيانا ثوريا. حيث يشير إلى أنه، بمجرد أن تصبح المعرفة قوة منتجة في حد ذاتها، متجاوزة العمالة الفعلية التي استهلكت في صنع الماكينة، لا يصبح السؤال الأكبر متعلقا بـ"المرتبات مقابل الفوائد" بل متعلقا بمن يسيطر على ماذا، وهو ما أطلق عليه ماركس اسم "قوة المعرفة".

Given what Marxism was to become – a theory of exploitation based on the theft of labour time – this is a revolutionary statement. It suggests that, once knowledge becomes a productive force in its own right, outweighing the actual labour spent creating a machine, the big question becomes not one of “wages versus profits” but who controls what Marx called the “power of knowledge”.

35

عندما تقوم الآلات بالحصة الأكبر من العمل في اقتصاد ما، فإن طبيعة المعرفة الموجودة داخل الآلات يجب أن تكون، كما يكتب ماركس، “اجتماعية”. في آخر تجاربه الفكرية تلك الليلة تخيل ماركس نقطة النهاية في هذا المسار: خلق “الآلة المثالية”، والتي ستكون تكلفتها صفر ويمكنها البقاء للأبد. يقول ماركس إن الآلة التي يمكن بناءها من لاشيء، لن تضيف قيمة إلى عملية الإنتاج، وبشكل متسارع وبمرور الوقت، ستقلل الأسعار والأرباح وتكلفة العمل وكل شيء تلمسه.

في اقتصاد تؤدّي فيه الآلات أكثر العمل فإنَّ طبيعة المعرفة المتجسِّدة في الآلات ينبغي أنْ تكون ”مجتمعيَّة“، بحسب ما كَتَبَ. في تجربة عقليَّة أخيرة في تلك الّليلة تخيَّل ماركس نقطة النِّهاية لذلك المسار: صُنْعُ ”الآلة المثالية“ التي تدوم إلى الأبد ولا تكلِّف شيئًا. فقال إنَّ الآلة التي يمكن صُنعُها بلا كُلفة لا تضيف أيَّة قيمة مطلقًا إلى صيرورة الإنتاج، وعبر الدورات المحاسبية سرعان ما ستخفِض تلك الآلة السَّعر والرَّبح وتكلفة العمل لكُلِّ ما تمسُّه.

في اقتصاد تفعل فيه الماكينات معظم العمل، يجب أن تكون طبيعة المعرفة الموضوعة داخل الماكينات "اجتماعية"، حسبما يذكر. وفي تجربة فكرية أخيرة متأخرة تخيل ماركس نقطة النهاية لذلك المسار، ألا وهي: إنشاء "ماكينة مثالية" يستمر عملها للأبد وليس لها أي تكلفة. فالماكينة التي يمكن بناءها دون تكلفة لن تضيف أي قيمة لعملية الإنتاج وستخفض بسرعة، على مدار عدة فترات محاسبية، السعر والعائد وتكاليف العمالة لأي عملية تشارك فيها.

In an economy where machines do most of the work, the nature of the knowledge locked inside the machines must, he writes, be “social”. In a final late-night thought experiment Marx imagined the end point of this trajectory: the creation of an “ideal machine”, which lasts forever and costs nothing. A machine that could be built for nothing would, he said, add no value at all to the production process and rapidly, over several accounting periods, reduce the price, profit and labour costs of everything else it touched.

36

بمجرد أن تفهم أن المعلومات هي شيء فيزيائي، وأن أنظمة التشغيل هي الآلة، وأن سعة التخزين ونطاقات التردد وقوة وحدات المعالجة تنهار أسعارها بمعدلات متضاعفة، فإن أفكار ماركس ستصبح أكثر وضوحا. نحن محاطون بآلات لا تكلفنا شيئا ونستطيع، إن أردنا ذلك، أن نجعلها تعمل إلى الأبد.

فور إدراكنا كون المعلومات مادِّيَّةً وكون البرمجيات آلاتٍ وإنَّ التَّخزين و سِعَةَ النِّطاقِ وقُوَّة المعالجة تتهاوى أسعارها أُسيًا فإنَّ قيمة أفكار ماركس تصير جليَّة. نحن محاطون بآلات لا يُكلِّف إنتاجها شيئًا و يمكنها البقاء إلى الأبد إذا أردنا لها ذلك.

بمجرد أن تفهم أن المعلومات مادية، وأن البرمجيات تمثل الماكينة، وأن سعر قوة التخزين، والنطاق الترددي والمعالجة ينهار بمعدلات أسية، تصبح قيمة تفكير ماركس واضحة. نحن محاطون بماكينات لا تكلف شيئا ويمكن، إن أردنا، أن نجعلها تستمر إلى الأبد.

Once you understand that information is physical, and that software is a machine, and that storage, bandwidth and processing power are collapsing in price at exponential rates, the value of Marx’s thinking becomes clear. We are surrounded by machines that cost nothing and could, if we wanted them to, last forever.

37

في تلك التأملات التي نُشرت أواسط القرن العشرين تخيل ماركس أن المعلومات تُخزن ويتم مشاركتها من خلال شيء أسمه “العقل العام”. وهو عقل كل شخص موجود على الأرض متصل معا من خلال المعرفة الاجتماعية والتي يستفيد كل الناس من أي تجديد لها. باختصار، تخيل شيئا قريبا من اقتصاد المعلومات الذي نحيا فيه، وكتب أن وجود هذا الشيء “سينسف الرأسمالية تماما”.

في تلك التأمُّلات التي لَمْ تُنشر إلى منتصف القرن العشرين تخيَّل ماركس أنَّ المعلومات سيُمكن تخزينها فيما أسماه ”العقل العمومي“ وهو عقلُ كُلِّ فرد على الأرض متَّصلًا بمعرفة اجتماعيَّة، بحيث أنَّ كُلَّ ترقية فيه تفيد الكافَّة. باختصار، فلقد تخيَّل ما يقارب اقتصاد المعلومات الذي نعيشه. وكتب إنَّ وجوده ”سينسف الرَّأسماليَّة نسفًا“.

في تلك التأملات، غير المنشورة حتى منتصف القرن العشرين، تخيل ماركس معلومات واردة ليتم تخزينها ومشاركتها في شيء يدعى "الفكر العام" – الذي مثل عقلا يشمل كل من عاش على الأرض متصلا عبر المعرفة الاجتماعية، بحيث يكون كل تحديث مفيدا للجميع. باختصار، تخيل شيئا مشابها لاقتصاد المعلومات الذي نعيش فيه. وكتب أن وجود ذلك الشيء سوف "يقضي على الرأسمالية تماما".

In these musings, not published until the mid-20th century, Marx imagined information coming to be stored and shared in something called a “general intellect” – which was the mind of everybody on Earth connected by social knowledge, in which every upgrade benefits everybody. In short, he had imagined something close to the information economy in which we live. And, he wrote, its existence would “blow capitalism sky high”.

38

مع تغير المشهد، فإن تصورات اليسار في القرن العشرين عن ما بعد الرأسمالية انتهت.

بتغيّر الواقع على الأرض ضاع الدَّرب لما بعد الرَّأسماليَّة الذي تخيَّله يساريّو القرن العشرين.

مع تغير المعالم، ضاع الطريق القديم لما بعد الرأسمالية الذي تخيله اليسار في القرن العشرين.

With the terrain changed, the old path beyond capitalism imagined by the left of the 20th century is lost.

39

هناك طريق آخر يظهر. الإنتاج الجمعي واستخدام تقنيات الشبكات لإنتاج سلع وخدمات لا تصلح إلا للاستخدام المجاني أو للمشاركة، هو ما يحدد الطريق إلى ما بعد نظام السوق. سيتطلب الأمر من الدول أن تحدد إطارا للعمل كما فعلت من قبل في أوائل القرن التاسع عشر بخصوص عمال المصانع، وصك العملات والتجارة الحرة. في الأغلب، سيتواجد قطاع ما بعد الرأسمالية جنبا إلى جنب مع قطاع السوق لعقود، لكن تغييرا كبيرا يحدث.

لكنَّ دربًا غيره قد بان. فالإنتاج التعاوني، واستخدام التقنيَة الشَّبكيَّة لإنتاج السِّلع والخدمات التي لا تصلح إلّا إنْ كانت مجّانيَّة أو إذا ما شورِكت، كُلُّها تُحدِّد المسار الذي يلي نظام السوق. سيتطلَّب ذلك أنْ تضع الدَّولة الإطار، كما سبق ووضعت إطار العمل في المصنع والعُمْلَة و التِّجارة الحُرَّة في بدايات القرن التّاسع عشر. القطاع مابعدرأسمالي سيتعايش على الأرجح مع قطاع السُّوق لعقود، لكنَّ تغيُّراتٍ بالغةٍ تحدث.

ولكن انفتح مسار مختلف. فالإنتاج المشترك، باستخدام تكنولوجيا الشبكة لإنتاج بضائع وخدمات تعمل فقط عندما تكون مجانية، أو تتم مشاركتها، ترسم الطريق إلى ما بعد نظام السوق. سيتطلب الأمر من الدولة أن تضع إطار العمل – مثلما وضعت إطار عمل لعمالة المصانع، والعملات القوية والتجارة الحرة في مطلع القرن التاسع عشر. من المرجح أن يتعايش قطاع ما بعد الرأسمالية مع قطاع الأسواق لعقود، مع حدوث تغير كبير.

But a different path has opened up. Collaborative production, using network technology to produce goods and services that only work when they are free, or shared, defines the route beyond the market system. It will need the state to create the framework – just as it created the framework for factory labour, sound currencies and free trade in the early 19th century. The postcapitalist sector is likely to coexist with the market sector for decades, but major change is happening.

40

استعادت الشبكات نسيج مشروع ما بعد الرأسمالية. وأصبح من الممكن أن تكون الشبكات أساسًا لنظام غير سوقي يمكنه تكرار نفسه دون الحاجة إلى إعادة إنتاج نسخة جديدة كل صباح على شاشة الحاسوب.

الشَّبكات تستعيد ”الرهافة“ إلى المشروع مابعدالرَّأسمالي. أيْ إنَّها تصلح أساسًا لنظامِ لاسوق يستنسخ نفسه ولا يتطلَّب استحداثه مُجدّدًا كلَّ صباح على شاشةِ حاسوبِ كوميسارٍ ما.

تعيد الشبكات "التفاصيل" إلى مشروع ما بعد الرأسمالية. التي يمكنها أن تكون أساسا لنظام غير قائم على الأسواق التي تتكاثر ذاتيا، والتي لا تحتاج لأن توضع من جديد يوميا على شاشة الحاسوب الخاصة بالمفوض.

Networks restore “granularity” to the postcapitalist project. That is, they can be the basis of a non-market system that replicates itself, which does not need to be created afresh every morning on the computer screen of a commissar.

4

سيساهم في عملية التحول كل من الدولة والسوق والإنتاج التعاوني الذي يميز مرحلة ما بعد السوق. لكن كي يحدث هذا يجب على اليسار بكافة أطيافه، من مجموعات التظاهر وصولا إلى أحزاب الاشتراكيين الديموقراطيين والليبراليين الرئيسية، أن يعيد تشكيل مشروعه. في الواقع، فإن فهم الناس لمنطق عملية التحول نحو ما بعد الرأسمالية سيجعل تلك الأفكار ليست حكرًا على اليسار فقط، بل ستكون جزءًا من حركة أوسع تحتاج إلى مسميات جديدة.

التَّحوُّل سيطال الدَّولة والسُّوق والإنتاج التَّشاركي فيما بعد السُّوق. لكنْ ليتحقَّق هذا تنبغي إعادة تهيئة مشروع اليسار كُلِّه، ابتداءً بمجموعات الاحتجاج وصولًا إلى أحزاب اليسار الدّيمقراطي والّليبراليَّة  التَّقليديَّة. في الواقع، ففور فَهْمِ النّاس منطقَ التَّحوُّل مابعدالرَّأسمالي فإنَّ تلك الأفكار لنْ تعود حكرًا على اليسار، بَلْ ستعمُّ حركةً واسعةً سنحتاج لمسمَّيات جديدة لها.

سيتضمن التحول مشاركة الدولة، والسوق والإنتاج المشترك بشكل يتخطى السوق. ولكن حتى يحدث ذلك، سيجب إعادة تعريف كامل المشروع اليساري، بدء بمجموعات الاحتجاج وحتى الأحزاب الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية السائدة. في الحقيقة، بمجرد فهم الشعوب لمنطق التحول لما بعد الرأسمالية، لن تظل تلك الأفكار ملكية خاصة لليسار – بل لحركة أكبر كثيرا، والتي سنحتاج لإعطائها مسميات جديدة.

The transition will involve the state, the market and collaborative production beyond the market. But to make it happen, the entire project of the left, from protest groups to the mainstream social democratic and liberal parties, will have to be reconfigured. In fact, once people understand the logic of the postcapitalist transition, such ideas will no longer be the property of the left – but of a much wider movement, for which we will need new labels.

42

من يستطيع احداث هذا التحول؟ في مشروع اليسار القديم كانت الطبقة العاملة الصناعية هي المنوط بها القيام بهذا التحول. منذ أكثر من مائتي عاما، حذر الصحفي الراديكالي جون ثيلوال من يبنون المصانع الإنجليزية من أنهم يخلقون شكلًا جديدًا وخطيرًا من الديموقراطية. وقال ثيلوال “كل ورشة كبيرة أو مصنع هو نوع من المجتمع السياسي، لا يستطيع أي برلمان إسكاته، ولا تستطيع أي محكمة حله”.

مَنْ بوسعه تحقيق ذلك؟ في مشروع اليسار القديم كانت الطَّبقة العاملة الصِّناعيَّة. قبل مئتي عام حذَّر الصَّحفي الرَّاديكالي جُون ثِلْوُول بُنَاةَ المصانع الإنكليزيَّة مِنْ أنَّهم خلقوا نوعًا جديدًا خطِرًا مِنْ الدِّيمقراطيَّة: ”كُلُّ ورشة كبيرة و مصنع هي ضَرْبٌ مِنْ مجتمع مُسَيَّسٍ لا يمكن لأيِّ تشريع برلماني إسكاته ولا لأيِّ شرطي تفريقه“.

من يمكنه تحقيق ذلك؟ في المشروع اليساري القديم، كانت الإجابة الطبقة العاملة الصناعية. وحذر الصحفي الراديكالي جون ثيلوال منذ أكثر من 200 عام الرجال الذين بنوا المصانع الإنجليزية من أنهم قد خلقوا صورة جديدة وخطيرة من الديمقراطية: "كل ورشة أو مصنع كبير يمثل شكلا للمجتمع السياسي، الذي لن تسكته أي خطوة برلمانية، ولن يفرقه أي قاضي".

Who can make this happen? In the old left project it was the industrial working class. More than 200 years ago, the radical journalist John Thelwall warned the men who built the English factories that they had created a new and dangerous form of democracy: “Every large workshop and manufactory is a sort of political society, which no act of parliament can silence, and no magistrate disperse.”

43

اليوم المجتمع كله عبارة عن مصنع، حيث نشارك جميعا في إنتاج وإعادة إنتاج العلامات التجارية والعادات والمؤسسات المحيطة بنا. في نفس الوقت، تعج شبكات التواصل، والتي تلعب دورا حيويا في إنجاز الأعمال اليومية، بالمعرفة المشتركة والاستياء. الشبكات اليوم مثل المصانع قبل مائتي عام “لا يستطيع أحد إسكاتها أو حلها”.

اليوم المجتمع كُلُّه مصنع. كُلُّنا نشارك في صنع وإعادة صنع الماركات والأعراف والمؤسَّسات المحيطة بنا. في الوقت ذاته فإنَّ شبكات الاتِّصال الضَّروريَّة للعمل والرِّبح اليوميَّين تعجُّ بالمعرفة التَّشاركيَّة و بالتَّذَمُّرِ. اليوم الشَّبكة هي ”ما لا يمكنهم إسكاته و لا تفريقه“، كالورشة منذ 200 عام.

واليوم، يمثل المجتمع كاملا مصنعا. حيث نشارك جميعا في إنشاء وإعادة إنشاء العلامات التجارية، والأعراف، والمؤسسات التي تحيط بنا. وفي ذات الوقت، تصخب اليوم شبكات الاتصال الحيوية للعمل والربح بالمعرفة المشتركة والسخط. اليوم أصبحت الشبكة مثل الورشة منذ 200 عام، حيث "لا يستطيعون إسكاتها أو تفريقها".

Today the whole of society is a factory. We all participate in the creation and recreation of the brands, norms and institutions that surround us. At the same time the communication grids vital for everyday work and profit are buzzing with shared knowledge and discontent. Today it is the network – like the workshop 200 years ago – that they “cannot silence or disperse”.

44

بالطبع تستطيع الدولة إغلاق فيسبوك وتويتر، بل ويمكنها غلق الإنترنت بالكامل وحتى شبكات الهواتف في أوقات الأزمات، ولكن الاقتصاد سيتعرض للشلل خلال تلك العملية. يمكن للدولة أن تقوم بتخزين ومراقبة كل كيلوبايت من المعلومات ينتجه الناس، ولكن لا يمكن إعادة فرض المجتمع، الطبقي والمدفوع بالدعاية والجاهل، الذي كان موجودا قبل خمسين عاما دون التخلص من أجزاء مفتاحية للحياة العصرية كما في حالة الصين أو كوريا الشمالية أو إيران. الأمر سيكون كمحاولة إلغاء الكهرباء في دولة ما، كما يقول عالم الاجتماع مانويل كاستياس.

بالطَّبع بوسع الحكومات حجب فيسبوك و تويتر وحتّى الإنترنت كلَّها وشبكات الهاتف المحمول أوقات الأزمات، شالَّة معها الاقتصاد. كما يمكن للحكومات تخزين ومراقبة كُلِّ كيلوبايت من المعلومات ننتجها. لكنَّهم لا يمكنهم إعادة فرض المجتمع الجاهل التَّراتبي المُقاد بالبروبَغانْدَا الذي وُجد منذ 50 عامًا، إلَّا في بلاد كالصِّين و كوريا الشَّماليَّة و إيران، أيْ بِتَرْكِ قسم كبير مِنْ مناحٍ هامَّة مِنْ الحياة المعاصرة. سيكون ذلك كما وصفه دارس علم الاجتماع مانويل كاسِلْزْ بمثابة إعادة البلد إلى ما قبل الكهربة.

صحيح أن الدول تستطيع حجب "فيس بوك" و"تويتر"، بل وحتى شبكة الإنترنت كلها وشبكة المحمول في أوقات الأزمات، ليتعرض الاقتصاد للشلل على إثر ذلك. ويمكنهم تخزين ومراقبة أي كيلوبايت ننتجه من المعلومات. ولكن لا يمكنها إعادة فرض المجتمع الطبقي الجاهل، الذي تحركه الدعاية، الذي تواجد منذ 50 عاما، إلا عبر اختيار عدم المشاركة في الأجزاء الرئيسية من الحياة الحديثة، كما الحال في الصين، كوريا الشمالية أو إيران. حيث تصبح، حسبما يصفها عالم الإجتماع مانويل كاستيلس، محاولة لفصل الكهرباء عن البلاد.

True, states can shut down Facebook, Twitter, even the entire internet and mobile network in times of crisis, paralysing the economy in the process. And they can store and monitor every kilobyte of information we produce. But they cannot reimpose the hierarchical, propaganda-driven and ignorant society of 50 years ago, except – as in China, North Korea or Iran – by opting out of key parts of modern life. It would be, as sociologist Manuel Castells put it, like trying to de-electrify a country.

45

بسبب وجود ملايين البشر المتصلين بشبكات مختلفة، والمُستَغلين ماديا، بالإضافة إلى وجود الذكاء الجمعي للبشرية على بعد حركة واحدة من إبهامك، خلقت الرأسمالية المعلوماتية عاملًا جديدًا للتغيير: البشر المتعلمين والمتصلين ببعضهم.

بوجود ملايين الأفراد المتَّصلين شبكيًّا، المُستغَلِّين ماليًّا لكنَّهم لا تفصلهم غير نقرة أُنمُلة عَن جماع الذَّكاء البشري، فإنَّ الرَّأسماليَّة المعلوماتيَّة قد أوجدت عاملًا جديدًا للتَّغيير التاريخي: الإنسان المتعلِّم المُتَّصل.

عبر إيجاد الملايين من الأشخاص المتصلين شبكيا، المستغلين ماليا لكن مع توافر كامل الذكاء الإنساني على بعد ضغطة زر، خلقت رأسمالية المعلومات عنصرا جديدا للتغيير في التاريخ وهو: الأشخاص المتعلمون والمتصلون.

By creating millions of networked people, financially exploited but with the whole of human intelligence one thumb-swipe away, info-capitalism has created a new agent of change in history: the educated and connected human being.

46

ما نتحدث عنه سيكون أكبر من مجرد تحول اقتصادي. بالطبع هناك مهام أخرى عاجلة يمكن فعلها بالتوازي مثل إنهاء استخدام الكربون في العالم والتعامل مع القنابل الموقوتة سواء المالية أو الديموغرافية. لكني هنا أركز على التحول الاقتصادي المدفوع بالمعلومات لأنه، وحتى هذه اللحظة، مازال مهمشا. يُنظر الآن إلى المشاركة الندّية باعتبارها هوسا يصيب بعض منظري المستقبل، بينما يكتفي “كبار” منظري الاقتصاد اليساريين بانتقاد حزم التقشف.

سيكون ذلك أكثر مِنْ مجرَّد تحوِّل اقتصادي. توجد بالطَّبع مهامٌّ ملحَّة ينبغي إنجازها بالتَّوازي، كعكسِ تكربُن العالم و التَّعاطي مع القنابل السُّكّانيَّة والماليَّة الموقوتة. لكنّي أركِّز هنا على التَّحوُّل الاقتصادي الذي ستُضرِمُ شرارتَه المعلوماتُ لأنَّه كان مُتجاهَلًا إلى الآن. تقنيات النِّد للنِّد حُصرت في كونها هوسًا هامشيًّا يخصُّ المستشرفين، بينما ”اللّاعبون الكبار“ للجناح اليساري للاقتصاد يواصلون انتقاد التَّقشُّف.

سيمثل ذلك أكثر من تحول اقتصادي. فهناك بالتأكيد المهام الموازية والعاجلة المنطوية على نزع الكربون من الجو والتعامل مع القنابل الديموغرافية والمالية الموقوتة. ولكنني أركز على التحول الاقتصادي الناجم عن المعلومات لأنه، حتى الآن، تم تهميشه. أصبحت تكنولوجيا الند للند مهملة بوصفها هوس مخصص للحالمين، بينما يرتضي "الكبار" باقتصاد اليسار بانتقاد التقشف.

This will be more than just an economic transition. There are, of course, the parallel and urgent tasks of decarbonising the world and dealing with demographic and fiscal timebombs. But I’m concentrating on the economic transition triggered by information because, up to now, it has been sidelined. Peer-to-peer has become pigeonholed as a niche obsession for visionaries, while the “big boys” of leftwing economics get on with critiquing austerity.

47

في الواقع، فإن بلدان مثل اليونان تتجاور فيها جهود مقاومة التقشف، مع محاولات خلق “شبكات لا يمكن إعلان إفلاسك فيها”، كما وصفها لي أحد النشطاء هناك. والأهم من كل هذا أن مفهوم ما بعد الرأسمالية يتعلق بإيجاد أشكال جديدة من السلوك الإنساني لا يراها الاقتصاد التقليدي مؤثرة.

في الواقع على الأرض في أماكن مثل اليونان يتواكب كُلٌّ مِنْ مناهضة التَّقشُّف وخلق ”الشَّبكات التي لا يمكن فيها التَّعثُّر عن الوفاء بالالتزامات“ -كما عبَّر لي أحد النُّشطاء. فالأهمُّ في مابعدالرَّأسماليَّة كمفهومٍ الأشكالُ الجديدة مِنْ السُّلوك البشري التي لا يعيرها الاقتصاد التقليدي اهتمامًا.

في الحقيقة، على الأرض في أماكن مثل اليونان، المقاومة للتقشف وخلق "شبكات لا يمكنك التخلف عنها" – حسبما أوضح لي أحد النشطاء – تتم بالتوازي. وفوق كل ذلك، تتعلق مرحلة ما بعد الرأسمالية، كفكرة، بصور جديدة من السلوك الإنساني التي يصعب على الاقتصادات التقليدية أن تعتبرها ملائمة.

In fact, on the ground in places such as Greece, resistance to austerity and the creation of “networks you can’t default on” – as one activist put it to me – go hand in hand. Above all, postcapitalism as a concept is about new forms of human behaviour that conventional economics would hardly recognise as relevant.

48

إذا كيف يمكن تخيل التحول الذي سيحدث في المستقبل؟ المرجع الوحيد المتماسك الذي يمكن الإحالة إليه هو التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية. وبفضل علماء الأوبئة والجينات وتحليل البيانات أصبحنا نعرف أكثر بكثير مما كنا نعرفه قبل خمسين عاما عندما كانت دراسة تلك الفترة في يد علوم الاجتماع. أول شيء يجب الاعتراف به أن أنماط الإنتاج المختلفة تنبني حول أشياء مختلفة. الإقطاع كان نظاما اقتصاديا مبنيا على عادات وقوانين تتمحور حول مفهوم “الالتزام”. الرأسمالية مبنية حول شيء اقتصادي بحت وهو السوق. نستطيع التنبؤ من هذا أن ما بعد الرأسمالية، والتي تمثل الوفرة شرط وجودها، لن تكون نسخة معدلة من مجتمع السوق المتشابك. لقد بدأنا بالكاد في تخيل صورة إيجابية عن ماهية النظام الجديد.

فكيف نتصوَّر التَّحوُّل الوشيك؟ المثال الدّال الوحيد لدينا هو حلول الرَّأسماليَّة مَحلَّ الإقطاع، وبفضل دارسي الأوبئة ودارسي الجينات ومُحلِّلي البيانات صِرنا نعرف عن ذاك التَّحوُّل ما يفوق كثيرًا ما كُنَّا نعرفه عنه منذ خمسين عامًا حينما كان الموضوع ”ملك“ العلوم الاجتماعيَّة. ما علينا إقراره أوَّلًا: أنَّ أطوار الإنتاج المختلفة لها هياكل مختلفة. الإقطاع كان نظامًا اقتصاديًا قوامه الأعراف والقوانين التي تحكم ”الالتزام“. أمّا الرَّأسماليَّة فقد كان قوامها اقتصاديًّا بحتًا: السُّوق. لذا فبوسعنا التَّنبُّؤ مِنْ ذلك بأنَّ مابعدالرَّأسماليَّة -المشروطة بالوفرة- لَنْ تقتصر على كونها شكلًا مُعدَّلًا مِنْ مجتمع السُّوق المُعقَّد. لكنَّنا بالكاد قادرون على رسم صورة حقيقيَّة لما ستكون عليه.

إذن فكيف نتصور التحول المستقبلي؟ يتمثل النظير الوحيد المتماسك لدينا في استبدال الإقطاعية بالرأسمالية – وبفضل عمل علماء الأوبئة، وعلماء الوراثة ومحللي البيانات، أصبحنا نعرف الكثير عن ذلك التحول الذي أجريناه منذ 50 عاما عندما كان خاصا بالعلوم الاجتماعية. أول ما يجب تمييزه هو: الحالات المختلفة للإنتاج المبنية على أمور مختلفة. فقد كانت الإقطاعية نظاما اقتصاديا قائما على العادات والقوانين المتعلقة بـ"الالتزام". بينما قامت الرأسمالية على شيء اقتصادي تماما وهو السوق. ومن خلال ذلك يمكننا توقع أن نظام ما بعد الرأسمالية – الذي يتمثل شرطه المسبق في الغزارة – لن يمثل ببساطة صورة معدلة من مجتمع السوق المعقد. ولكن يمكننا فقط أن نبدأ في اغتنام تصور إيجابي عما سيكون شكله.

So how do we visualise the transition ahead? The only coherent parallel we have is the replacement of feudalism by capitalism – and thanks to the work of epidemiologists, geneticists and data analysts, we know a lot more about that transition than we did 50 years ago when it was “owned” by social science. The first thing we have to recognise is: different modes of production are structured around different things. Feudalism was an economic system structured by customs and laws about “obligation”. Capitalism was structured by something purely economic: the market. We can predict, from this, that postcapitalism – whose precondition is abundance – will not simply be a modified form of a complex market society. But we can only begin to grasp at a positive vision of what it will be like.

49

أنا لا أقصد التهرب من السؤال، وأعتقد أن المتغيرات الاقتصادية العامة لمجتمع ما بعد الرأسمالية عام 2075 على سبيل المثال يمكن تحديدها. لكن في حالة وجود هذا المجتمع المبني على الحرية الإنسانية وليس الاقتصاد، فإن ما سيقوم بتشكيله هو أشياء غير متوقعة.

وَلَسْتُ أقصد بهذا التَّهرُّب مِنْ السُّؤال: فالمعالم الاقتصاديَّة العموميَّة لمجتمع مابعدالرَّأسماليَّة، ولنأخذ سنة 2075 مثالًا، يمكن تأطيرها. لكنَّ مجتمعًا قوامه تحرير الإنسان، لا الاقتصاد، لا يمكن التَّنبُّؤ بمُحدِّداته.

لا أقصد بذلك تجنب السؤال: فالمعايير الاقتصادية العامة لمجتمع ما بعد الرأسمالية خلال عام 2075، على سبيل المثال، يمكن إيجازها. ولكن إن ارتكز بناء ذلك المجتمع على التحرير الإنساني، وليس الاقتصادي، ستبدأ أمور لا يمكن توقعها في تشكيله.

I don’t mean this as a way to avoid the question: the general economic parameters of a postcapitalist society by, for example, the year 2075, can be outlined. But if such a society is structured around human liberation, not economics, unpredictable things will begin to shape it.

5

على سبيل المثال، كان السوق بكل ما يستدعيه من أنماط جديدة في السلوك والأخلاق هو أكثر الأشياء وضوحا بالنسبة لشكسبير عندما كان يكتب عام 1600. بمد الخط على استقامته، ستكون أكثر الأشياء “الاقتصادية” وضوحا بالنسبة لشكسبير عام 2075 هي الثورة الكاملة في ما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين أو الجنسانية أو الصحة. ربما لن يكون هناك حقوق ملكية فكرية للمسرحية على الإطلاق، وربما ستتغير طبيعة الوسائط التي نستخدمها لحكي القصص. بالضبط كما تغيرت عندما بُنيت المسارح العامة للمرة الأولى في لندن في عصر إليزابيث.

لنأخذ مثلًا ما كان باديًا لشيكسبير، الكاتب سنة 1600، مِنْ كون السُّوق قد استدعى سلوكيّات وأخلاقيّات جديدة. وبالقياس فإنَّ ما سيكون باديًا ”اقتصاديًّا“ لشيكسبير 2075 هو الفوران الكبير في علاقات الجِندَر والجُنسانيَّة والصِّحَّة. ربَّما لَنْ يوجد ساعتها كُتَّاب مسرح: ربَّما ستتغيَّر طبيعة الميديا التي نستعملها للحكي -كما تغيَّرت في لندن على عهد إليزَبِث عندما بُني أوَّل مسرح عمومي.

على سبيل المثال، كان الشيء الأكثر وضوحا بالنسبة لشيكسبير، حسبما كتب في عام 1600، هو أن السوق قد استدعى نوعا رابعا وجديدا من السلوك والأخلاقية. وبالقياس، سيكون الشيء "الاقتصادي" الأكثر وضوحا بالنسبة لشيكسبير في العام 2075 هو الثورة في العلاقات بين الجنسين، أو النشاط الجنسي، أو الصحة. ربما لن يكون هناك حتى كتاب مسرحيين: ربما ستتغير الطبيعة الكاملة للإعلام التي نستخدمها في حكي القصص – مثلما تغيرت بلندن في عهد إليزابيث عندما بنيت المسارح العامة لأول مرة.

For example, the most obvious thing to Shakespeare, writing in 1600, was that the market had called forth new kinds of behaviour and morality. By analogy, the most obvious “economic” thing to the Shakespeare of 2075 will be the total upheaval in gender relationships, or sexuality, or health. Perhaps there will not even be any playwrights: perhaps the very nature of the media we use to tell stories will change – just as it changed in Elizabethan London when the first public theatres were built.

51

دعنا نفكر في الفروق بين شخصية هوراشيو في هاملت وشخصية مثل دانيل دويس في دوريت الصغيرة لديكينز. كلاهما مهووس بشكل دلالي بالتقدم في السن. هوراشيو مهووس أيضا بالفلسفة الإنسانية، لكن دويس له هوس بالحصول على براءات لاختراعاته. شخصية مثل دويس لا يمكن أن توجد عند شكسبير، في أفضل الأحوال سيحصل على دور صغير كشخصية كوميدية تنتمي للطبقة العاملة. ولكن في العصر الذي كتب فيه ديكينز شخصية دويس كان جميع القراء يعرفون شخصا واحدا على الأقل يشبهه. كما لم يستطع شكسبير تخيل دويس، نحن أيضا لا نستطيع تخيل نوع المجتمع البشري الذي سيوجد عندما لا يكون محور الحياة هو الاقتصاد. لكننا نستطيع رؤية أنماط في طور التشكل موجودة في حيوات الشباب من مختلف أنحاء العالم، هؤلاء الذين يكسرون حواجز القرن العشرين حول مفاهيم الجنسانية والعمل والإبداع والنفس.

لِنَتَفَكَّر مثلًا في الفرق بين هوراشيو في "هاملِت" وشخصيَّةٍ مثل دانيال دُويْس في رواية "دوريت الصغيرة" لديكِنز، فكُلُّ شخصيَّة منهما بها هَوَسٌ يخصُّ عصرها؛ هوراشيو مهووس بالفلسفة الإنسانويَّة، ودُويْس مهووس بتسجيل براءة اختراعه. لا يُمكن لشخصيَّة مثل دُويْس أنْ توجَد في شيكسبير، و لو كان لها أنْ توجد فَلَمْ تكن لتزيد بروزًا عن كونها شخصيَّة مِنْ الطَّبقة العاملة، هامشيَّةً هزليَّةً. مع ذلك فبحلول العصر الذي وصف فيه ديكِنز شخصيَّة دُويْس كان أكثر قرائه يعرفون شخصًا مثله. وكما لَمْ يكن لشيكسبير تخَيُّل دُويْس فنحن كذلك لا يمكننا تَخيُّل طبيعة الكائن الإنساني الذي سيُنتجه المجتمع عندما يصير الاقتصاد غير أساسي للحياة. لكن بوسعنا رؤية إرهاصاته في حيوات الشَّباب في جميع أنحاء العالم، الذين يُكسِّرون حوائط القرن العشرين حول الجُنسانيَّة والعمل والإبداع والذَّات.

فكر في الفارق بين، على سبيل المثال، شخصية هوراتيو عند هامليت وشخصية مثل دانيال دويس في رواية "ليتل دوريت" الخاصة بديكنز. فكلاهما يحمل هوسا خاصا بعصرهما – فهوراتيو مهووس بالفلسفة الإنسانية، ودويس مهووس بتسجيل براءة اختراع لاختراعه. لا يمكن أن يكون هناك شخصية مثل دويس في كتابات شيكسبير، فهو، في أحسن الأحوال، قد يحصل على ظهور صغير كشخصية هزلية منتمية إلى الطبقة العاملة. إلا أنه في الوقت الذي وصف فيه ديكنز شخصية دويس، عرف معظم قراءه شخصية مشابهة في حياتهم. مثلما لم يستطع شكسبير تخيل دويس، نحن لا نستطيع تخيل نوع البشر الذين سينتجهم المجتمع بمجرد ألا يصبح الاقتصاد محور الحياة. لكن يمكننا أن نرى صورهم المتخيلة في حيوات الشباب الذين يكسرون حواجز القرن العشرين حول النشاط الجنسي، والعمل، والإبداع، والنفس في أنحاء العالم.

Think of the difference between, say, Horatio in Hamlet and a character such as Daniel Doyce in Dickens’s Little Dorrit. Both carry around with them a characteristic obsession of their age – Horatio is obsessed with humanist philosophy; Doyce is obsessed with patenting his invention. There can be no character like Doyce in Shakespeare; he would, at best, get a bit part as a working-class comic figure. Yet, by the time Dickens described Doyce, most of his readers knew somebody like him. Just as Shakespeare could not have imagined Doyce, so we too cannot imagine the kind of human beings society will produce once economics is no longer central to life. But we can see their prefigurative forms in the lives of young people all over the world breaking down 20th-century barriers around sexuality, work, creativity and the self.

52

كانت أولى صدامات النموذج الإقطاعي الزراعي هو حدوده البيئية ثم بعد ذلك أتت صدمة خارجية هائلة وهي الموت الأسود (الطاعون). ثم أعقب ذلك الصدمة الديموغرافية والتي حدثت نتيجة قلة أعداد العمال القادرين على العمل في الأرض الزراعية. وهو بدوره ما أدى إلى رفع الأجور وجعل من المستحيل فرض النظام الإقطاعي القديم القائم على الالتزام. ساهم نقص العمالة أيضا في إحداث طفرة في الابتكارات التقنية. كانت التقنيات الجديدة المواكبة لصعود الرأسمالية التجارية هي تقنيات تساهم في تنشيط التجارة (الطباعة والمحاسبة) وتخلق طرقًا لتبادل الثراوت (التعدين والبوصلة والسفن السريعة) وتزيد الإنتاجية (الرياضيات والبحث العلمي).

اصطدم النَّموذج الزراعي الإقطاعي أوَّلًا بالحدود البيئيَّة ثم بصدمة خارجيَّة هي الطّاعون الأسود. بعد ذلك أتت صدمة ديموغرافيَّة: لَمْ يتبقَّ سوى عدد صغير مِنْ العمَّال لفلاحة الأرض، مِمّا زاد من أجورهم و حال دون فرض نظام الالتزام الإقطاعي العتيق. نقص العمالة كان دافعًا للابتكار التِّقني. التِّقنيات الحديثة التي دعَّمت صعود رأسماليَّة التُّجّار كانت هي التي حفزت التجارة، أيْ الطِّباعة والمُحاسبة؛ وتلك التي حفزت خلق ثروات تُمكِن مبادلتُها، أيْ التَّعدين والبوصلة والسُّفن السريعة؛ وما حفزت الإنتاجية، أيْ الرِّياضيّات والأسلوب العلمي.

اصطدم النموذج الإقطاعي للزراعة، أولا، بحدود بيئية ثم بصدمة خارجية هائلة – وهي الموت الأسود. بعد ذلك، حدثت صدمة ديموغرافية: حيث كان هناك عدد قليل جدا من العمال للأرض، ما أدى لرفع أجورهم وجعل من المستحيل تطبيق نظام الالتزام الإقطاعي القديم. كما دفع نقص العمالة الابتكار التكنولوجي. فالتكنولوجيات الجديدة التي ارتكزت على ظهور الرأسمالية التجارية كانت هي التكنولوجيات التي حفزت التجارة (التجارة والمحاسبة)، وإنشاء ثروة قابلة للتداول (التعدين، والبوصلة والسفن السريعة)، والإنتاجية (الرياضيات والوسائل العلمية).

The feudal model of agriculture collided, first, with environmental limits and then with a massive external shock – the Black Death. After that, there was a demographic shock: too few workers for the land, which raised their wages and made the old feudal obligation system impossible to enforce. The labour shortage also forced technological innovation. The new technologies that underpinned the rise of merchant capitalism were the ones that stimulated commerce (printing and accountancy), the creation of tradeable wealth (mining, the compass and fast ships) and productivity (mathematics and the scientific method).

53

خلال مرحلة التحول الرأسمالي كان هناك شيء حاضر باستمرار لكن النظام القديم كان ينظر إليه باعتباره غير هام. هذا الشيء هو النقد والائتمان، والذي أصبح أساس النظام الجديد. كانت الكثير من العادات والقوانين في زمن الإقطاع مصممة حول فكرة تجاهل النقود، وكان الائتمان في المراحل العليا للإقطاع يعتبر خطيئة. لذلك عندما كسر النقد والائتمان الحدود لخلق نظام السوق، شعر الجميع بأن ثورة قد حدثت. بعد ذلك، مُنح النظام الجديد طاقته عن طريق اكتشاف مصدر غير محدود تقريبا للثروة المجانية في الأمريكتين.

كما كان حاضرًا أثناء الصَّيرُورة كُلِّها عنصران بَدَيَا للنِّظام القديم عرَضِيَّيْن، ألا وهما النُّقود والائتمان، لكنْ قُدِّر لهما أنْ يكونَا أساس النِّظام الجديد. في الإقطاع صيغت قوانين وأعراف عديدة مضمونها تجاهُل النُّقود. أمّا الاقتراض فقد عُدَّ في أوج الإقطاع خطيئةً. لذا فعندما اجتاح النَّقدُ والائتمان تلك الحوائط خالقين نظام السُّوق فقد بدَا ذلك كثورة. ثم إنَّ ما أوجد في النظام الجديد زخمه كان اكتشاف الثَّروات غير المتناهية في الأمريكتين.

كان الحاضر خلال العملية كلها أمرا يبدو عرضيا بالنسبة للنظام القديم – نظام الأموال والأرصدة – ولكنه كان مقدرا له أن يصبح أساسا لنظام جديد. في الإقطاعية، صيغت الكثير من القوانين والأعراف حول تجاهل المال، حيث كان يعتبر إثما في الإقطاعية الشديدة. لذلك عندما فجر المال والأرصدة القيود لخلق نظام سوق، بدا الأمر كثورة. ثم استمد النظام الجديد طاقته من اكتشاف مصدر شبه غير محدود للثروة المجانية في الأمريكتين.

Present throughout the whole process was something that looks incidental to the old system – money and credit – but which was actually destined to become the basis of the new system. In feudalism, many laws and customs were actually shaped around ignoring money; credit was, in high feudalism, seen as sinful. So when money and credit burst through the boundaries to create a market system, it felt like a revolution. Then, what gave the new system its energy was the discovery of a virtually unlimited source of free wealth in the Americas.

54

هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تصدير أشخاص همشهم الإقطاع مثل الإنسانيين والعلماء والحرفيين والمحاميين والوعاظ الجذريين وكتاب المسرحيات أمثال شكسبير، لقيادة مرحلة التحول الاجتماعي. خلال لحظات مفصلية، وإن كان بشكل مؤقت في البدايات، تحول موقف الدولة من عرقلة التغيير إلى الترويج له.

توليفة العوامل تلك أدَّت بمجموعة من النَّاس كانوا مُهمَّشين في الإقطاع -الإنسانويّين والمشتغلين بالعلوم والحرفيّين والمحامين والدُّعاة الدِّينين الرَّاديكاليّين وكُتَّاب المسرح البوهيميّين مِنْ أمثال شيكسبير- إلى أنْ يصبحوا على رأس التَّحوَّل الاجتماعي. وفي الّلحظات الفارقة تحوَّلت الدَّولة مِنْ إعاقة التَّحول إلى تشجيعه، وإنْ كان على استحياء في البداية.

اتخذ خليط من تلك العوامل مجموعة من الأشخاص الذين تعرضوا للتهميش في ظل الاقطاعية – الإنسانيين، العلماء، الصناع، المحامين، الدعاة الراديكاليين والكتاب المسرحيين البوهيميين مثل شكسبير – ووضعهم على رأس تحول اجتماعي. وفي الفترات الهامة، رغم كونها مؤقتة في البداية، تحولت الدولة من إعاقة ذلك التغيير إلى دعمه.

A combination of all these factors took a set of people who had been marginalised under feudalism – humanists, scientists, craftsmen, lawyers, radical preachers and bohemian playwrights such as Shakespeare – and put them at the head of a social transformation. At key moments, though tentatively at first, the state switched from hindering the change to promoting it.

55

ما يؤدي اليوم إلى تآكل الرأسمالية، وهو ما تستوعبه علوم الاقتصاد السائدة بالكاد، هو المعلومات. أغلب القوانين المتعلقة بالمعلومات تحفظ حقوق الشركات في تخزينها وحقوق الدول في الولوج إليها دون النظر إلى حقوق المواطنين. ما يعادل الصحافة المطبوعة والبحث العلمي اليوم هو تقنيات المعلومات وما تضفيه على كل التقنيات الأخرى سواء في مجال الجينات أو النظام الصحي أو الزراعة وحتى الأفلام، حيث تساعد المعلومات على تخفيض النفقات.

أمَّا اليوم فما ينخر الرَّأسماليَّة دون أنْ يعقله الاقتصاد التقليدي هي المعلومات. أغلب القوانين المتعلِّقة بالمعلومات تمنح الشَّركات حقَّ مراكمتها وحقَّ الحكومات في النَّفاذ إليها دون التفاتٍ إلى حقوق المواطنين الإنسانيَّة. معادل المطبعة والأسلوب العلمي هي تقنية المعلوماتيَّة وفيضها على التِّقنيات الأخرى، مِنْ الجينات إلى الرِّعاية الصِّحية إلى الزِّراعة إلى الأفلام، وهي فيها جميعا تُقلِّل التَّكلفة سريعًا.

اليوم، الأمر الذي يجعل الرأسمالية تتآكل، والذي بالكاد يكون مبررا من قبل الاقتصادات السائدة، هو المعلومات. معظم القوانين المتعلقة بالمعلومات تحدد حق الشركات في تخزينها وحق الدول في الوصول إليها، بصرف النظر عن حقوق الإنسان الخاصة بالمواطنين. المماثل للصحافة المطبوعة والمنهج العلمي هو تكنولوجيا المعلومات وامتدادها إلى تكنولوجيات أخرى، من الجينات إلى الرعاية الصحية إلى الزراعة إلى الأفلام، حيث تخفض التكاليف بسرعة.

Today, the thing that is corroding capitalism, barely rationalised by mainstream economics, is information. Most laws concerning information define the right of corporations to hoard it and the right of states to access it, irrespective of the human rights of citizens. The equivalent of the printing press and the scientific method is information technology and its spillover into all other technologies, from genetics to healthcare to agriculture to the movies, where it is quickly reducing costs.

56

المعادل المعاصر للركود الطويل الذي صاحب أواخر الإقطاع هو تعطيل انطلاق الثورة الصناعية الثالثة. فبدلا من الإسراع في إحلال الآلة مكان العمل، أصبح الأمر مقتصرا على خلق ما يسميه دايفيد جرايبر “وظائف تافهة” بأجور منخفضة. بالإضافة إلى معاناة اقتصادات عدة من الركود.

أمَّا المعادل المعاصر للرُّكود الطَّويل في نهاية الإقطاع فهو التَّعطُّل في انطلاق الثَّورة الصِّناعيَّة الثَّالثة الذي في غضونه، عوضًا عَنْ إحلال الميكنة محلَّ العمالة، فإنَّنا نكتفي بخلق ما يسمّيه دافيد جريبَر ”الوظائف الهُرائيَّة“ بأجور منخفضة. اقتصادات عديدة راكدة الآن.

والمماثل الحديث للركود الطويل خلال أواخر عهد الإقطاعية هو الإقلاع المتعثر للثورة الصناعية الثالثة، فبدلا من تحويل العمل سريعا إلى التشغيل الآلي، يتم حصرنا فيما يطلق عليه ديفيد جرايبير "وظائف تافهة" مقابل أجور ضئيلة. ويتعرض الكثير من الاقتصادات للركود.

The modern equivalent of the long stagnation of late feudalism is the stalled take-off of the third industrial revolution, where instead of rapidly automating work out of existence, we are reduced to creating what David Graeber calls “bullshit jobs” on low pay. And many economies are stagnating.

57

ما هو المعادل للمصدر الجديد للثروة المجانية؟ ليست ثروة تحديدا ولكنها “الإضافيات”. الأشياء المجانية والرفاهية التي ينتجها التفاعل الشبكي. صعود الإنتاج غير السوقي والمعلومات التي لا يمكن امتلاكها وشبكات النظراء والشركات التي تعمل بلا إدارة. الإنترنت كما يصفه عالم الاقتصاد الفرنسي يان موليير- بواتنج “هو كل من السفينة والمحيط” عندما نتحدث عن المعادل المعاصر لاكتشاف العالم الجديد. في الحقيقة أنه السفينة والبوصلة والمحيط والذهب.

فما المعادل المعاصر لمصدر الثَّروة المجّانيَّة؟ هي ليست ثروة بالضَّبط: بَلْ هي ”الخارجيّات“، تلك الأشياء المجّانيَّة وصلاح الحال النّاتج عن التَّفاعل الشَّبكي. إنَّه نبوغ إنتاج اللاسوق، والمعلومات التي لا يمكن تملُّكها، وشبكات الأنداد والمؤسَّسات التي بلا إدارة. الإنترنت كما يصفها الاقتصادي الفرنسي يان موليير-بوتانگ هي ”القارب والبحر“ في المعادل المعاصر لاكتشاف العالم الجديد. في الواقع هي السَّفينة والبوصلة والبحر والذَّهب.

فما هو البديل للمصدر الجديد للثروة المجانية؟ وهي ليست تحديدا ثروة: إنما هي "عوامل خارجية" – الأشياء المجانية والرفاهية المتولدتين عن التفاعل الشبكي. إنه ظهور الإنتاج غير السوقي، للمعلومات غير القابلة للتملك، ولشبكات الند، وللشركات غير المدارة. يعتبر الإنترنت، حسبما يرى الاقتصادي الفرنسي يان مولير بوتانج، "السفينة والمحيط" عندما يتعلق الأمر بالبديل الحديث لاكتشاف عالم جديد. في الحقيقة، يمثل الإنترنت السفينة، والبوصلة، والمحيط، والذهب.

The equivalent of the new source of free wealth? It’s not exactly wealth: it’s the “externalities” – the free stuff and wellbeing generated by networked interaction. It is the rise of non-market production, of unownable information, of peer networks and unmanaged enterprises. The internet, French economist Yann Moulier-Boutang says, is “both the ship and the ocean” when it comes to the modern equivalent of the discovery of the new world. In fact, it is the ship, the compass, the ocean and the gold.

58

الصدمات الخارجية المعاصرة واضحة، نقص الطاقة والتغير المناخي وشيخوخة السكان والهجرة. هذه العوامل تقوم بتغيير ديناميكيات الرأسمالية وتجعلها عاجزة عن الاستمرار على المدى الطويل. ليس لتلك الأشياء نفس تأثير الموت الأسود، ولكن كما رأينا في نيو أورلينز عام 2005، لا يحتاج الأمر إلى طاعون لتدمير النظام الاجتماعي والبينة التحتية الفعالة في مجتمع فقير ومعقد ماليا.

أمَّا الصَّدمات الخارجيَّة المعاصرة فبادية: استنزاف الطّاقة، والتَّغيُّر المناخي، وتعاجز السُّكّان، والهجرة. فهذه تُغيِّر ديناميكيّات الرَّأسماليَّة لتجعلها غير فعّالة على المدى الطويل. إلى الآن لَمْ يكن لتلك العوامل الوقع الذي كان للطّاعون الأسود، لكنْ كما رأينا في نيو أورلينز سنة 2005 فإنَّ الأمر لا يتطلَّب الطّاعون الدبلي لهدم النِّظام الاجتماعي والبنيَة التحتيَّة الفعّالة في مجتمع مُعقَّدٍ ماليًا مُعوَز.

تعتبر الصدمات الخارجية الخاصة بالعصر الحديث واضحة، وهي: نضوب الطاقة، والتغير المناخي، والشعوب المسنة، والهجرة. تحول تلك الصدمات ديناميكيات الرأسمالية ويجعلونها غير صالحة على المدى البعيد. لم تحدث تلك العوامل بعد نفس تأثير الموت الأسود – ولكن كما شهدنا في ولاية نيو أورليانز عام 2005، لا يستلزم الأمر وجود وباء الطاعون لتدمير النظام الاجتماعي والبنية التحتية الوظيفية في مجتمع معقد وفقير ماليا.

The modern day external shocks are clear: energy depletion, climate change, ageing populations and migration. They are altering the dynamics of capitalism and making it unworkable in the long term. They have not yet had the same impact as the Black Death – but as we saw in New Orleans in 2005, it does not take the bubonic plague to destroy social order and functional infrastructure in a financially complex and impoverished society.

59

لو فهمنا التحول القادم بتلك الطريقة، فإننا لا نحتاج إلى خطة محسوبة بدقة مدتها خمس سنوات. ما نحتاجه هو مشروع يهدف إلى توسيع التقنيات وأنماط الأعمال والسلوكيات التي تذيب قوى السوق. بالإضافة إلى المعرفة الاجتماعية وإنهاء الحاجة إلى العمل ودفع الاقتصاد نحو الوفرة. أنا أطلق عليه المشروع صفر، لأنه يهدف إلى إيجاد نظام طاقة تصل نسبة الكربون فيه إلى صفر، وإنتاج آلات ومنتجات وخدمات بتكلفة قيمتها صفر، وتقليل العمل الضروري إلى نسبة تقترب قدر الإمكان من الصفر.

فور أنْ نفهم التَّحوُّل على هذا النَّحو فإنَّ المطلوب لا يعود خطَّةً خمسيَّةً بالغة الإحكام، بَلْ مشروعًا يُهدَف به إلى نشر تلك التِّقنيَات ونماذج الأعمال و السُّلوكيّات التي تُحلِّل قوى السُّوق وتؤمِّم المعرفة وتَجْتَثُّ الاحتياج إلى العمل وتدفع بالاقتصاد نحو الوفرة. أسمِّيه المشروع صفر، لأنَّ أهدافه هي: اقتصادٌ صفري الانبعاثات الكربونيَّة، وإنتاج آلاتٍ وسلع وخدمات بتكلفة حديَّة صفريَّة، وتقليل وقت العمل اللازم بقدر الإمكان إلى ما يقرب الصِّفر.

بمجرد فهمك للتحول بتلك الطريقة، لن ترى حاجة إلى خطة خمسية محسوبة للغاية – بل لمشروع، يجب أن يكون هدفه توسيع تلك التكنولوجيات، ونماذج الأعمال والسلوكيات التي تذيب قوى السوق، وتنشر المعرفة في المجتمع، وتقضي على الحاجة للعمل وتدفع الاقتصاد نحو الوفرة، أطلق عليه اسم "المشروع صفر" – لأن هدفه إيجاد نظام طاقة صفري الكربون، حيث يكون إنتاج الماكينات، والمنتجات والخدمات له تكلفة هامشية صفرية، وخفض وقت العمل الضروري إلى أقرب عدد ممكن إلى الصفر.

Once you understand the transition in this way, the need is not for a supercomputed Five Year Plan – but a project, the aim of which should be to expand those technologies, business models and behaviours that dissolve market forces, socialise knowledge, eradicate the need for work and push the economy towards abundance. I call it Project Zero – because its aims are a zero-carbon-energy system; the production of machines, products and services with zero marginal costs; and the reduction of necessary work time as close as possible to zero.

60

أغلب المنتمين إلى اليسار في القرن العشرين اعتقدوا أنهم لا يمتلكون رفاهية التحول المنظم. كانوا مؤمنين بأنه لا يوجد شيء في النظام الجديد يمكن أن يوجد داخل النظام القديم، لذلك سعت دائما الطبقة العاملة إلى خلق واقع بديل داخل “وعلى الرغم من” الرأسمالية. وبمجرد انتهاء إمكانية التحول على النمط السوفيتي، أصبح اليسار المعاصر مشغولا بمعارضة أمور من قبيل خصخصة النظام الصحي والقوانين المناهضة للنقابات واستخراج النفط من الصخور.. والقائمة تطول.

أغلب يساريّي القرن العشرين آمنوا بأنَّهم لَمْ تكن لديهم رفاهية الإقدام على تحوِّل تدريجي مُدار: لقد كان مِنْ أركان الإيمان لديهم استحالة وجود أيٍّ مِنْ ملامح النِّظام القادم في النِّظام القديم، وذلك بالرُّغم مِنْ السَّعي الدّائم للطَّبقة العاملة لخلق حياتها داخل الرَّأسماليَّة وبالرُّغم منها. نتيجةً لذلك فَفَوْرَ تلاشي إمكانيَّة التَّحوِّل على النَّمط السوفيتي أصبح اليسار المعاصر منشغلًا بمعارضة كُلِّ شيء: خصخصة النِّظام الصِّحيِّ، والقوانين المناهضة للاتِّحادات العمَّاليَّة، واستخراج الوقود الحفري بالتَّصديع المائي - والقائمة تطول.

اعتقد معظم يساريي القرن العشرين أنهم لم يتمتعوا برفاهية التحول الناجح: حيث مثل الأمر اعتقادا راسخا بالنسبة لهم بأن النظام القادم لن يتواجد بأي شكل داخل النظام القديم – رغم أن الطبقة العاملة حاولت دائما أن تخلق حياة بديلة داخل و"رغم" الرأسمالية. نتيجة لذلك، بمجرد اختفاء احتمالية حدوث تحول على الطريقة السوفيتية، أصبح اليسار الحديث مشغول البال ببساطة بأمور متعارضة مثل: تخصيص الرعاية الصحية، القوانين المخالفة للنقابات، والتصديع المائي - وتطول القائمة.

Most 20th-century leftists believed that they did not have the luxury of a managed transition: it was an article of faith for them that nothing of the coming system could exist within the old one – though the working class always attempted to create an alternative life within and “despite” capitalism. As a result, once the possibility of a Soviet-style transition disappeared, the modern left became preoccupied simply with opposing things: the privatisation of healthcare, anti-union laws, fracking – the list goes on.

61

لو كنت مصيبا فيما أقول فإنه من المنطقي الآن بالنسبة لمؤيدي ما بعد الرأسمالية التركيز على بناء بدائل داخل النظام، واستخدام القوة الحكومية بشكل جذري ومختلف، وتوجيه كل طاقاتنا ناحية هذا التحول، وليس محاولات الدفاع عن عناصر عشوائية داخل النظام القديم. يجب أن نتعلم التفريق بين العاجل والمهم، وأنهم أحيانا لا يتقاطعان.

إذا كنتُ مُحِقًّا فإنَّ شاغل مؤيِّدي مابعدالرَّأسماليَّة بناءُ بدائلَ داخل النِّظام، واستخدام القدرة الحكوميّة على أنحاء جذريَّة مُزعزِعة، وتوجيه كُلِّ الفعل نحو التَّغيير، وليس شاغلُهم الدِّفاع عَنْ عناصر عشوائيَّة مِنْ النِّظام القديم. علينا التَّفريق ما بين المُلِحِّ و الهامِّ، فهما أحيانًا لا يتطابقان.

إن كنت محقا، فإن التركيز المنطقي لداعمي نظام ما بعد الرأسمالية هو بناء بدائل داخل النظام، لاستخدام القوة الحكومية بشكل راديكالي ومدمر، ولتوجيه جميع الخطوات نحو التحول – وليس الدفاع عن عناصر عشوائية من النظام القديم. يجب أن ندرك الفارق بين ما هو عاجل، وما هو هام، وأنهما أحيانا لا يتوافقا.

If I am right, the logical focus for supporters of postcapitalism is to build alternatives within the system; to use governmental power in a radical and disruptive way; and to direct all actions towards the transition – not the defence of random elements of the old system. We have to learn what’s urgent, and what’s important, and that sometimes they do not coincide.

62

قوة الخيال ستصبح حاسمة. في المجتمع المعلوماتي لا تهدر أي فكرة أو نقاش أو حلم، سواء حدثت في خيمة أو في زنزانة أو على طاولة كرة قدم مصغرة لشركة ناشئة.

قُوَّة الخيال ستكون محوريِّة. ففي مجتمع المعلومات لا تَتَبَدَّدُ أيُّ فكرة ولا جَدَلٍ ولا حُلْم، سواء طرأت في مُخيَّمٍ أو زنزانة أو مساحة التَّرفيه في شركة ناشئة.

ستصبح قوة الهجرة حاسمة. ففي مجتمع المعلومات، لا تذهب أي فكرة أو مناقشة أو حلم هباء – سواء المتولدة في معسكر تخييم، أو زنزانة سجن، أو ساحة الترفيه بشركة جديدة.

The power of imagination will become critical. In an information society, no thought, debate or dream is wasted – whether conceived in a tent camp, prison cell or the table football space of a startup company.

63

خلال التحول إلى ما بعد الرأسمالية يستطيع العمل المبذول في مرحلة التصميم إلى تقليل الأخطاء في مرحلة التنفيذ، كما هو الحال في التصنيع الافتراضي. يمكن أن يكون تصميم عالم ما بعد الرأسمالية، كما هو الحال في البرمجيات، مجزأ، بحيث يستطيع أناس مختلفون من أماكن مختلفة العمل على المشروع بسرعات مختلفة، بينما يتمتعون باستقلالية نسبية عن بعضهم. لو أن لدي القدرة على استدعاء شيء واحدا إلى الوجود دون مقابل سيكون معهدًا عالميًا يمثل النمط الصحيح للرأسمالية. نموذج مفتوح المصدر للاقتصاد يكون رسميا ورماديا وأسود. كل تجربة تجري من خلاله ستساهم في إثرائه، وسيكون مفتوح المصدر ويحتوي على عدد من نقاط البيانات يعادل أكثر الأنظمة البيئية تعقيدا.

وكما هو الحال في التَّصنيع الافتراضي فإنَّ الجهد المبذول في التَّصميم في أثناء التَّحوُّل إلى مابعدالرَّأسماليَّة يقلِّلُ الأخطاء في مرحلة التَّطبيق. وتصميمُ العالم مابعدالرَّأسمالي، كما في البرمجيّات، يمكن أنْ يكون تركيبيًّا، إذْ يمكن لأشخاص عديدين العمل عليه في أماكن عِدَّة بسرعات عِدَّة باستقلال نسبي عن بعضهم البعض. لو كان لي استحضار شيء واحد إلى الوجود بأمنيَة مُجابة لَتَمنَّيتُ مؤسَّسة عالميَّة تُنمذج الرَّأسماليَّة كما ينبغي: نموذجَ مُحاكاةٍ مفتوحِ المصدر للاقتصاد كُلِّه، الرَّسمي مِنْهُ والرَّمادي والأسود. فكُلُّ تجربة تُجرى فيه ستُغنيه، سيكون مفتوح المصدر  وفيه مِنْ عناصر البيانات بقدر ما في نموذج لمُحاكاة المُناخ.

بالنسبة للتصنيع الرقمي، في التحول إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية، يمكن للعمل المنجز في مرحلة التصميم أن يقلل الأخطاء في مرحلة التطبيق. وتصميم عالم ما بعد الرأسمالية، بالنسبة للبرمجيات، يمكن أن يكون مركبا من وحدات. ويمكن لأشخاص مختلفين أن يعملون عليه في أماكن مختلفة، وبسرعات مختلفة، ومع استقلالية نسبية عن بعضهم. إن استطعت استدعاء شيء واحد إلى حيز الوجود دون مقابل فسيكون مؤسسة عالمية تحاكي الرأسمالية على نحو صحيح: نموذج مفتوح المصدر لكامل الاقتصاد، الرسمي والرمادي والأسود. كل تجربة تمر من خلال تلك المؤسسة ستثريها، وستكون مصدرا مفتوحا وستتمتع بوحدات بيانات يصل عددها إلى عدد وحدات في النماذج المناخية الأكثر تعقيدا.

As with virtual manufacturing, in the transition to postcapitalism the work done at the design stage can reduce mistakes in the implementation stage. And the design of the postcapitalist world, as with software, can be modular. Different people can work on it in different places, at different speeds, with relative autonomy from each other. If I could summon one thing into existence for free it would be a global institution that modelled capitalism correctly: an open source model of the whole economy; official, grey and black. Every experiment run through it would enrich it; it would be open source and with as many datapoints as the most complex climate models.

64

التناقض الرئيسي في عالمنا اليوم يحدث بين إمكانية الحصول على المعلومات والحرية والسلع الوفيرة، ونظام قائم على الاحتكار والبنوك والحكومات التي تحاول إبقاء كل شيء شحيح وتجاري وخاص. كل شيء في النهاية يصل إلى الصراع بين الشبكات والتراتبية، بين الأشكال القديمة من المجتمع التي صُممت حول الرأسمالية والأشكال الجديدة التي ستحدد ما سيأتي لاحقا.

التناقض الأساسي اليوم يكمن في إمكانية وجود السِّلع و المعلومات الوفيرة المجّانيَّة، إلى جوار نظام مِنْ الاحتكارات، والبنوك والحكومات التي تجاهد لاستبقاء السِّريَّة والنُّدرة والتِّجاريَّة. المسألة كُلُّها تُختزَلُ إلى صراع بين الشَّبكة والتَّراتبيَّة: بين أنساق المجتمع العتيقة المجبولة على الرَّأسماليَّة وأنساق المجتمع الجديدة التي تَسْتَشْرِفُ الآتي.

يتواجد التناقض الرئيسي اليوم بين احتمالية توافر البضائع والمعلومات المجانية والغزيرة، ونظام الشركات الاحتكارية والبنوك والحكومات التي تحاول أن تبقى الأشياء خاصة ونادرة وتجارية. ويخلص كل شيء إلى الصراع بين الشبكية والنظام الهرمي: بين الصور القديمة للمجتمع، المتشكلة حول الرأسمالية وصور جديدة للمجتمع تسبق ما سيأتي لاحقا.

The main contradiction today is between the possibility of free, abundant goods and information; and a system of monopolies, banks and governments trying to keep things private, scarce and commercial. Everything comes down to the struggle between the network and the hierarchy: between old forms of society moulded around capitalism and new forms of society that prefigure what comes next.

65

هل من المثالية أن نعتقد أننا على حافة تطور يتجاوز الرأسمالية؟ نحن نعيش في عالم يستطيع النساء والرجال المثليين فيه أن يتزوجوا، عالم جعلت وسائل منع الحمل فيه المرأة خلال الخمسين عاما الماضية أكثر حرية من أكثر المتحررات جموحا في عصر بلومزبري. لماذا إذن نجد صعوبة في تخيل الحرية الاقتصادية؟

هل مِنْ اليوتوبيَّة التَّصديق بأنَّنا على شفَا تطوُّر تالٍ للرَّأسماليَّة؟ نعيش اليوم عالمًا فيه يمكن للمثليّين مِنْ الرِّجال والنِّساء الزَّواج، وفيه في غضون 50 عامًا جعلت وسائلُ منع الحمل نساءَ الطَّبقة العاملة أكثر حرِّيَّةً مِنْ أكثر أفراد جماعة بلومزبري تحرُّرا. فلِمَ إذن يصعب علينا تصوُّر الحرِّيَّة الاقتصاديَّة!

هل من الأفلاطوني الاعتقاد بأننا على شفا تطور يتجاوز الرأسمالية؟ نحن نعيش في عالم يمكن الرجال والنساء المثليين من الزواج، وجعلت فيه وسائل منع الحمل، في غضون 50 عاما، المرأة المتوسطة المنتمية إلى الطبقة العاملة أكثر حرية من الفاسقة الأكثر جنونا في حقبة بلومزبري. إذن فلماذا نجد أنه من الصعب تخيل الحرية الاقتصادية؟

Is it utopian to believe we’re on the verge of an evolution beyond capitalism? We live in a world in which gay men and women can marry, and in which contraception has, within the space of 50 years, made the average working-class woman freer than the craziest libertine of the Bloomsbury era. Why do we, then, find it so hard to imagine economic freedom?

66

إنهم النخبة المنعزلون خلف النوافذ القاتمة لسياراتهم الفارهة، والذي يبدو مشروعهم بائسًا كمشروع طوائف الألفية في بداية القرن التاسع عشر. الديموقراطية التي تديرها فرق مكافحة الشغب والساسة الفاسدون والصحافة المُحتكرة والدولة القائمة على المراقبة تبدو مزيفة وهشة كما كانت تبدو ألمانيا الشرقية منذ ثلاثين عاما.

إنّ الصَّفوة -المنعزلين في عالم ليموزيناتهم الدّاكنة- هم الذين يبدو مشروعهم في قنوط جماعات نهايَة الألفيَّة في القرن التّاسع عشر. ديمقراطيَّة فِرَقِ مكافحة الشَّغب والسِّياسيّون الفاسدون وصحافة الأقطاب ودولة المراقبة الشاملة تبدو اليوم في زيف وهشاشة ألمانيا الشَّرقية منذ 30 عامًا.

إنها النخبة – المنعزلة في سياراتها الداكنة الفارهة – التي يبدو مشروعها بائسا مثل مشروع القطاعات الألفية في القرن التاسع عشر. تبدو الديمقراطية، المنطوية على فرق مكافحة الشغب، والسياسيين الفاسدين، والصحف التي يسيطر عليها العمالقة والدول التي تمارس التجسس، مزيفة وهشة مثلما كانت ألمانيا الشرقية منذ 30 عاما.

It is the elites – cut off in their dark-limo world – whose project looks as forlorn as that of the millennial sects of the 19th century. The democracy of riot squads, corrupt politicians, magnate-controlled newspapers and the surveillance state looks as phoney and fragile as East Germany did 30 years ago.

67

كل القراءات في التاريخ البشري يجب أن تسمح بوجود احتمالية وجود نتيجة سلبية. تلك الفكرة تطاردنا في أفلام الموتى الأحياء وأفلام الكوارث وأفلام ما بعد نهاية العالم كفيلمي الطريق وإليزيام. ولكن ما الذي يمنعنا من تكوين صورة عن الحياة المثالية المبنية على المعلومات الوفيرة والعمل غير التراتبي وفصل العمل عن الأجور؟

كُلُّ قراءات التّاريخ البشري ينبغي أنْ تَأَخُذَ في حسبانها النَّتيجة السَّلبيَّة. هذا هو ما يوحِشُنا في أفلام الزّومبي وأفلام الكوارث وأفلام الخراب الأبوكَلِبسي مِنْ أمثال The Road أو Elysium. لكن لِمَ لا نرسم صورة للحياة المثاليَّة، مبنيَّة على الوفرة المعلوماتيَّة، وعلى مجتمع غير تراتبي وعلى فصل العمل عن الأجر؟

جميع القراءات في التاريخ الإنساني تتيح احتمالية تحقق نتيجة سلبية. وتطاردنا في الأفلام التي تصف أرض الخراب التي تلي نهاية العالم مثل فيلم "ذا رود" أو "إليزيوم". ولكن لماذا لا يجب أن نرسم صورة للحياة المثالية، مبنية على المعلومات الوفيرة، والعلم غير الهرمي وفصل العمل عن الأجور؟

All readings of human history have to allow for the possibility of a negative outcome. It haunts us in the zombie movie, the disaster movie, in the post-apocalytic wasteland of films such as The Road or Elysium. But why should we not form a picture of the ideal life, built out of abundant information, non-hierarchical work and the dissociation of work from wages?

68

ملايين الناس بدأوا في إدراك أنهم اشتروا حلما يتناقض مع ما يمكن تحقيقه في الواقع. رد فعلهم كان الغضب، والتوجه نحو أشكال قومية من الرأسمالية يمكن أن تساهم فقط في تمزيق العالم. رؤية تلك التيارات المتصاعدة، من الأجنحة اليسارية داخل حركة سيريزا المؤيدة لخروج اليونان من منطقة اليورو إلى الجبهة الوطنية بالإضافة إلى انعزال اليمين الأمريكي، تبدو كما لو كنا نرى الكوابيس التي عانينا منها خلال أزمة ليمان برازرز تتحقق.

ملايين الناس آخذون في إدراك أنَّهم قد اشتروا حُلْمًا يتعارض مع ما يُمكن إدراكه في الواقع. فيكون رَدُّ فعلهم الغضب و الانسحاب إلى أنماط مِنْ الرَّأسماليَّة القوميَّة التي لا يمكن أنْ تؤدي إلّا إلى تمزيق العالم. مشاهدة ذيوع صيت هؤلاء، بدءًا من فصائل سيريزا المناصِرة خروجَ اليونان من الاتِّحاد الأوربي، و انتهاءً بالجبهة الوطنيَّة الفرنسيَّة، و الانعزاليَّة اليمينيَّة الأمريكيَّة، كان كمشاهدة تَحقُّق الكوابيس التي راودتنا أثناء أزمة شركة ليمان إخوان القابضة.

يبدأ ملايين الأشخاص في إدراك أنه قد بيع لهم حلم مخالف لما يمكن للواقع أن يحقق. وتتمثل استجاباتهم في الغضب – والتراجع نحو صور قومية من الرأسمالية ستؤدي فقط إلى تمزيق العالم. تشبه مراقبة ظهور ذلك، بدء بفصائل اليسار المناصرة لخروج اليونان من منطقة اليورو في "سيريزا" إلى "الجبهة الوطنية" والانعزالية الخاصة باليمين الأمريكي، مشاهدة تحقق الكوابيس التي شاهدناها أثناء أزمة "ليمان بروذرز".

Millions of people are beginning to realise they have been sold a dream at odds with what reality can deliver. Their response is anger – and retreat towards national forms of capitalism that can only tear the world apart. Watching these emerge, from the pro-Grexit left factions in Syriza to the Front National and the isolationism of the American right has been like watching the nightmares we had during the Lehman Brothers crisis come true.

69

نحتاج إلى ما هو أكثر من الأحلام المثالية والمشاريع الأفقية صغيرة الحجم. نحتاج إلى مشروع قائم على العقل والدلائل والتصميمات المُختبرة. مشروع يتقاطع مع حركة التاريخ ويمكنه الاستمرار على الكوكب. ويجب أن نبدأ فيه في أسرع وقت.

نحن بحاجة إلى ما يزيد على حفنة من الأحلام اليوتوبيَّة والمشروعات الصَّغيرة الأفُقِيَّة. نحن بحاجة إلى مشروعٍ مبني على العقل و البرهان و التَّصميمات القابلة للاختبار، مشروعٍ يَنساب مع مجرى التَّاريخ و يكون قابلًا للاستدامة كوكبيًّا. و علينا الشروع في هذا فورًا.

نحتاج إلى أكثر من مجرد مجموعة من الأحلام الأفلاطونية والمشاريع الأفقية صغيرة النطاق. نحتاج إلى مشروع مبني على المنطق والدليل والتصميمات التي يمكن اختبارها، ويتسق مع التاريخ ويمكن للعالم أن يستديمه. ونحن في حاجة إلى قبوله.

We need more than just a bunch of utopian dreams and small-scale horizontal projects. We need a project based on reason, evidence and testable designs, that cuts with the grain of history and is sustainable by the planet. And we need to get on with it.

Valid XHTML 1.0 Strict